الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّيۤ أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ }

قوله تعالى: { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } أي من أبواب شتى. { مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } إن أراد إيقاع مكروه بهم. { إِلاَّ حَاجَةً } استثناء ليس من الأوّل. { فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } أي خاطر خطر بقلبه وهو وصيته أن يتفرّقوا قال مجاهد: خشية العين، وقد تقدّم القول فيه. وقيل: لئلا يرى الملك عددهم وقوّتهم فيبطش بهم حسداً أو حذراً قاله بعض المتأخرين، واختاره النحاس، وقال: ولا معنى للعين ها هنا. ودلّت هذه الآية على أن المسلم يجب عليه أن يحذر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم. قوله تعالى: { وَإِنَّهُ } يعني يعقوب. { لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } أي بأمر دينه. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون ما يعلم يعقوب عليه السلام من أمر دينه. وقيل: «لَذُو عِلْمٍ» أي عمل فإن العلم أوّل أسباب العمل، فسمي بما هو بسببه. قوله تعالى: { وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ } قال قتادة: ضمّه إليه، وأنزله معه. وقيل: أمر أن ينزل كل ٱثنين في منزل، فبقي أخوه منفرداً فضمّه إليه وقال: أشفقت عليه من الوحدة، وقال له سِرًّا من إخوته: { إِنِّيۤ أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ } أي لا تحزن { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }. قوله تعالى: { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } لما عرف بنيامين أنه يوسف قال له: لا تردّني إليهم، فقال: قد علمت اغتمام يعقوب بي فيزداد غمّه، فأبى بنيامين الخروج فقال يوسف: لا يمكن حبسك إلا بعد أن أنسبك إلى ما لا يجمل بك: فقال: لا أبالي! فدس الصاع في رحله إما بنفسه من حيث لم يطلع عليه أحد، أو أَمَر بعض خواصّه بذلك. والتّجهيز التسريح وتنجيز الأمر ومنه جَهّز على الجريح أي قتله، ونجّز أمره. والسقاية والصواع شيء واحد إناء له رأسان في وسطه مَقْبِض، كان الملك يشرب منه من الرأس الواحد، ويكال الطعام بالرأس الآخر قاله النقاش عن ابن عباس، وكل شيء يشرب به فهو صواع وأنشد:
نَشـربُ الخمـرَ بالصّـواع جِهَـارًا   
واختلف في جنسه فروى شعبة عن أبي بِشر عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس قال: كان صواع الملك شيء من فضة يشبه الْمَكُّوك، من فضة مرصع بالجوهر، يجعل على الرأس وكان للعباس واحد في الجاهلية، وسأله نافع بن الأزرق ما الصواع؟ قال: الإناء قال فيه الأعشى:
له دَرْمَكٌ في رأسه ومَشارِبٌ   وقِدْرٌ وطَبَّاخٌ وصاعٌ ودَيسَقُ
وقال عِكرمة: كان من فضة. وقال عبد الرحمن بن زيد: كان من ذهب وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم. وقيل: إنما كان يكال به لعزّة الطعام.

السابقالتالي
2