الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }

قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض أي أقدرناه على ما يريد. وقال الكِيَا الطَّبَري قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ } دليل على إجازة الحيلة في التوصّل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق، ومثله قوله تعالى:وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [صۤ: 44] وحديث أبي سعيد الخُدْرِيّ في عامل خَيْبَر، والذي أدّاه من التَّمْر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله. قلت: وهذا مردود على ما يأتي. يقال: مَكّناه ومكّنا له، قال الله تعالى:مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } [الأنعام: 6]. قال الطَّبريّ: استخلف الملك الأكبر الوليد بن الريّان يوسف على عمل إطفير وعَزَله قال مجاهد: وأسلم على يديه. قال ٱبن عباس: ملّكه بعد سنة ونصف. وروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لَمُلِّك في وقته " ثم مات إطفير فزوّجه الوليد بزوجة إطفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء، وولدت له ولدين: إفراثيم ومنشا، ٱبني يوسف، ومن زعم أنها زَلِيخَاء قال: لم يتزوّجها يوسف، وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بالمعصية، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكاً، فضمّها إليه، فكانت من عياله حتى ماتت عنده، ولم يتزوّجها ذكره الماورديّ وهو خلاف ما تقدّم عن وهب، وذكره الثعلبيّ فالله أعلم. ولما فوّض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطّف بالناس، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به، وأقام فيهم العدل، فأحبّه الرجال والنساء، قال وهب والسُّديّ وابن عباس وغيرهم: ثم دخلت السنون المخصبة، فأمر يوسف بإصلاح المزارع، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة، فلما أدركت الغَلّة أمر بها فجمعت، ثم بنى لها الأَهْرَاءَ، فجمعت فيها في تلك السنة غَلّة ضاقت عنها المخازن لكثرتها، ثم جمع عليه غلّة كل سنة كذلك، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل جبريل وقال: يا أهل مصر جوعوا فإن الله سلّط عليكم الجوع سبع سنين. وقال بعض أهل الحكمة: للجوع والقحط علامتان: إحداهما: أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية. والثانية: أن يفقد الطعام فلا يوجد رأساً ويعزّ إلى الغاية، فٱجتمعت هاتان العلامتان في عهد يوسف، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع ويأكلون ولا يشبعون، وانتبه الملك، ينادي الجوع الجوع قال: فدعا له يوسف فأبرأه الله من ذلك، ثم أصبح فنادى يوسف في أرض مصر كلها معاشر الناس! لا يزرع أحد زرعاً فيضيع البذر ولا يطلع شيء.

السابقالتالي
2