الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }

فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ } قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خِزَانة الأرض أما سمعت إلى قوله: «ٱجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ» أي على حفظها، فحذف المضاف. { إِنِّي حَفِيظٌ } لما وُلّيْت { عَلِيمٌ } بأمره. وفي التفسير: إني حاسب كاتب وأنه أوّل من كتب في القراطيس. وقيل: «حَفِيظٌ» لتقدير الأقوات «عَلِيمٌ» بسنيّ المجاعات. قال جُويبر عن الضّحّاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أخي يوسف لو لم يقل ٱجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أَخَّر ذلك عنه سنة " قال ابن عباس: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتَوجَّه ورَدّاه بسيفه، ووضع له سريراً من ذهب، مكلّلاً بالدرّ والياقوت، وضرب عليه حُلّة من إِسْتَبرق وكان طول السرير ثلاثين ذراعاً وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشاً وستون مِرْفَقة، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوّجاً، لونه كالثلج، ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه من صفاء لون وجهه، فجلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه. قال ابن زيد: كان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلّم سلطانه كلّه إليه، وهلك قطفير تلك الليالي، فزوّج الملك يوسف راعيل ٱمرأة العزيز، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ٰ فقالت: أيها الصدّيق لا تلمني فإني كنت ٱمرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنتَ كما جعلك الله من الحسن فغلبتني نفسي. فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: إفراثيم بن يوسف، ومنشا بن يوسف. وقال وهب بن منَبّه: إنما كان تزويجه زليخاء ٱمرأة العزيز بين دخلتي الإخوة، وذلك أن زليخاء مات زوجها ويوسف في السجن، وذهب مالها وعمي بصرها بكاء على يوسف، فصارت تَتَكفّف الناس فمنهم من يرحمها ومنهم من لا يرحمها، وكان يوسف يركب في كل أسبوع مرة في موكب زُهَاء مائة ألف من عظماء قومه، فقيل لها: لو تعرّضت له لعله يسعفك بشيء ثم قيل لها: لا تفعلي، فربما ذكربعض ما كان منك من المراودة والسجن فيسيء إليك، فقالت: أنا أعلم بخُلُق حبيبي منكم، ثم تركته حتى إذا ركب في موكبه، قامت فنادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل الملوك عبيداً بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكاً بطاعتهم، فقال يوسف: ما هذه؟ فأتوا بها فقالت: أنا التي كنت أخدمك على صدور قدميّ، وأُرَجِّل جُمَّتك بيديّ، وتربيت في بيتي، وأكرمت مثواك، لكن فرط ما فرط من جهلي وعُتوّي فذقت وبال أمري، فذهب مالي، وتضعضع ركني، وطال ذلّي، وعَمِي بصري، وبعد ما كنت مغبوطة أهل مصر صرت مرحومتهم، أتكفّف الناس، فمنهم من يرحمني، ومنهم من لا يرحمني، وهذا جزاء المفسدين فبكى يوسف بكاء شديداً، ثم قال لها: هل بقيت تجدين مما كان في نفسك من حبك لي شيئاً؟ فقالت: والله لنظرة إلى وجهك أحب إليّ من الدنيا بحذافيرها، لكن ناولني صدر سوطك، فناولها فوضعته على صدرها، فوجد للسوط في يده ٱضطراباً وارتعاشاً من خفقان قلبها، فبكى ثم مضى إلى منزله فأرسل إليها رسولاً: إن كنتِ أَيِّماً تزوّجناك، وإن كنتِ ذات بعل أغنيناك، فقالت للرّسول: أعوذ بالله أن يستهزىء بي الملك! لم يُردْني أيام شبابي وغناي ومالي وعزّي أفيريدني اليوم وأنا عجوز عمياء فقيرة؟ٰ فأعلمه الرسول بمقالتها، فلما ركب في الأسبوع الثاني تعرّضت له، فقال لها: ألم يبلّغك الرسول؟ فقالت: قد أخبرتك أن نظرة واحدة إلى وجهك أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها فأمر بها فأصلح من شأنها وهُيئت، ثم زُفّت إليه، فقام يوسف يصلّي ويدعو الله، وقامت وراءه، فسأل الله تعالى أن يعيد إليها شبابها وجمالها وبصرها، فردّ الله عليها شبابها وجمالها وبصرها حتى عادت أحسن ما كانت يوم راودته، إكراماً ليوسف عليه السلام لمّا عَفَّ عن محارم الله، فأصابها فإذا هي عذراء، فسألها فقالت: يا نبيّ الله إن زوجي كان عِنِّيناً لا يأتي النساء، وكنت أنت من الحسن والجمال بما لا يوصف قال: فعاشا في خَفْض عيش، في كل يوم يجدّد الله لهما خيراً، وولدت له ولدين، إفراثيم ومنشا.

السابقالتالي
2 3 4