الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } * { قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ }

قوله تعالى: { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ } ويقال: «نُسوة» بضم النون، وهي قراءة الأعمش والمفضّل والسُّلَميّ، والجمع الكثير نساء. ويجوز: وقالت نسوة، وقال نسوة، مثل قالت الأعراب وقال الأعراب وذلك أن القصة ٱنتشرت في أهل مصر فتحدّث النساء. قيل: ٱمرأة ساقي العزيز، وٱمرأة خبازه، وٱمرأة صاحب دوابه، وٱمرأة صاحب سجنه. وقيل: ٱمرأة الحاجب عن ٱبن عباس وغيره. { تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } الفتى في كلام العرب الشاب، والمرأة فتاة. { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } قيل: شغفها غلبها. وقيل: دخل حبه في شغافها عن مجاهد وغيره. وروى عمرو بن دينار عن عِكرمة عن ٱبن عباس قال: دخل تحت شَغافها. وقال الحسن: الشّغف باطن القلب. السديّ وأبو عبيد: شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه. وقيل: هو وسط القلب والمعنى في هذه الأقوال متقارب، والمعنى: وصل حبه إلى شَغافها فغلب عليه قال النابغة:
وقد حال هَمٌّ دون ذلك داخلٌ   دخولَ الشّغافِ تبتغيه الأصابعُ
وقد قيل: إن الشّغاف داء وأنشد الأصمعي للراجز:
يتبعـها وهي له شَغـافُ   
وقرأ أبو جعفر بن محمد وٱبن محيصن والحسن «شَعَفَها» بالعين غير معجمة قال ٱبن الأعرابي: معناه أحرق حبه قلبها قال: وعلى الأوّل العمل. قال الجوهريّ: وشَعفه الحب أحرق قلبه. وقال أبو زيد: أمرضه. وقد شُعِف بكذا فهو مشعوف. وقرأ الحسن «قَدْ شَعَفَهَا» قال: بَطَنها حبًّا. قال النحاس: معناه عند أكثر أهل اللغة قد ذهب بها كل مذهب لأن شِعَاف الجبال: أعاليها وقد شُغِف بذلك شُغْفاً بإسكان الغين إذا أُولِع به إلا أن أبا عبيدة أنشد بيت ٱمرىء القيس:
لتقتلني وقد شَعَفْتُ فؤادَها   كَمَا شَعَفَ الْمَهْنُوءَةَ الرّجُل الطَّالِي
قال: فشبهت لوعةُ الحبّ وجَوَاه بذلك. ورُوي عن الشَّعْبي أنه قال: الشّغف بالغين المعجمة حُبّ، والشّعف بالعين غير المعجمة جنونٌ. قال النحاس: وحكي «قد شَغِفَها» بكسر الغين، ولا يعرف في كلام العرب إلا «شَغَفها» بفتح الغين، وكذا «شَعَفها» أي تركها مشعوفة. وقال سعيد بن أبي عَرُوبة عن الحسن: الشَّغاف حجاب القلب، والشَّعاف سويداء القلب، فلو وصل الحبّ إلى الشّعاف لماتت وقال الحسن: ويقال إن الشَّغاف الجلدة اللاصقة بالقلب التي لا ترى، وهي الجلدة البيضاء، فلصق حبُّه بقلبها كلصوق الجلدة بالقلب. قوله تعالى: { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي في هذا الفعل. وقال قَتَادَة: «فَتَاهَا» وهو فتى زوجها، لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذ أمرُها فيه. وقال مقاتل عن أبي عثمان النَّهْديّ عن سلمان الفارسيّ قال: إن ٱمرأة العزيز ٱستوهبت زوجها يوسف فوهبه لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت: أتخذه ولداً قال: هو لك فربته حتى أَيْفع وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تنكشف له وتتزيّن وتدعوه من وجه اللطف فعصمه الله.

السابقالتالي
2 3 4 5 6