الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } قيل: الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال إذ لم يكن ذلك عقداً، مثل:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16]. وقيل: إنهم ظنوه في ظاهر الحال ٱشتراء، فجرى هذا اللفظ على ظاهر الظن. قال الضّحاك: هذا الذي ٱشتراه ملك مصر، ولقبه العزيز. السُّهيلي: وٱسمه قطفير. وقال ٱبن إسحق: إطفير بن رويحب ٱشتراه لامرأته راعيل ذكره الماورديّ. وقيل: كان اسمها زَلِيخَاء. وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز، فأوصى به أهله ذكره القُشيريّ. وقد ذكر القولين في ٱسمها الثّعلبيّ وغيره. وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر، وهو الريان بن الوليد. وقيل: الوليد بن الريان، وهو رجل من العمالقة. وقيل: هو فرعون موسى لقول موسى:وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ } [غافر: 34] وأنه عاش أربعمائة سنة. وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، على ما يأتي في «غافر» بيانه. وكان هذا العزيز الذي ٱشترى يوسف على خزائن الملك واشترى يوسف من مالك بن دُعْر بعشرين ديناراً، وزاده حلة ونعلين. وقيل: اشتراه من أهل الرّفقة. وقيل: تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مِسْكاً وعنبراً وحريراً وورِقاً وذهباً ولآلىء وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن قاله وهب بن منبّه. وقال وهب أيضاً وغيره: ولما ٱشترى مالك بن دُعْر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتاباً: هذا ما ٱشترى مالك بن دعر من بني يعقوب، وهم فلان وفلان مملوكاً لهم بعشرين درهماً، وقد شرطوا له أنه آبق، وأنه لا ينقلب به إلا مقيداً مسلسلاً، وأعطاهم على ذلك عهد الله. قال: فودّعهم يوسف عند ذلك، وجعل يقول: حفظكم الله وإن ضيعتموني، نصركم الله وإن خذلتموني، رحِمكم الله وإن لم ترحموني قالوا: فألقت الأغنام ما في بطونها دماً عَبِيطاً لشدّة هذا التوديع، وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء، مقيداً مكبّلاً مسلسلاً، فمرّ على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمّه ـ وقد كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود ـ فألقى يوسف نفسه على قبر أمّه فجعل يتمرّغ ويعتنق القبر ويضطرب ويقول: يا أماه! ٱرفعي رأسك تري ولدك مكبلاً مقيداً مسلسلاً مغلولاً فرّقوا بيني وبين والدي، فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقرّ رحمته إنه أرحم الراحمين، فتفقده الأسود على البعير فلم يره، فقفا أثره، فإذا هو ببياض على قبر، فتأمله فإذا هو إياه، فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضرباً وجيعاً فقال له: لا تفعل! والله ما هربت ولا أبِقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودّعها، ولن أرجع إلى ما تكرهون فقال الأسود: والله إنك لعبد سوء، تدعو أباك مرة وأمك أخرى! فهلا كان هذا عند مواليك فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني فضجّت الملائكة في السماء، ونزل جبريل فقال له: يا يوسف! غُضّ صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء! أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها؟ قال: تثبت يا جبريل، فإن الله حليم لا يعجل فضرب الأرض بجناحه فأظلمت، وٱرتفع الغبار، وكسفت الشمس، وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضاً فقال رئيس القافلة: من أحدث منكم حدثاً؟ ـ فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قطّ مثل هذا ـ فقال الأسود: أنا لطمت ذلك الغلام العبرانيّ فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه، ولا أشك أنه دعا علينا فقال له: ما أردت إلا هلاكناٰ ٱيتِنا به، فأتاه به، فقال له: يا غلام! لقد لطمك فجاءنا ما رأيت فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت، وإن كنت تعفو فهو الظنّ بك قال: قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني فانجلت الغبرة، وظهرت الشمس، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها، وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه، حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها وأذهب الله عنه كآبة السفر، وردّ عليه جماله، ودخل به البلد نهاراً فسطع نوره على الجدران، وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك قاله ٱبن عباس على ما تقدّم.

السابقالتالي
2 3