الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ }

قوله تعالى: { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ }. فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { بِدَمٍ كَذِبٍ } قال مجاهد: كان دم سخلة أو جَدْي ذبحوه. وقال قتادة: كان دم ظبية أي جاءوا على قميصه بدم مكذوب فيه، فوصف الدم بالمصدر، فصار تقديره: بدم ذي كذب مثل: «وَٱسْأَلِ الْقَرْيَةَ» والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر يقال: هذا ضَرْبُ الأمير، أي مضروبه وماء سَكْب أي مسكوب، وماء غَوْر أي غائر، ورجل عَدْل أي عادل. وقرأ الحسن وعائشة: «بِدَمٍ كدِبٍ» بالدّال غير المعجمة، أي بدم طرِيّ يقال للدّم الطريّ ٱلكدِبِ. وحكى أنه المتغير قاله الشعبي. والكدب أيضاً البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث فيجوز أن يكون شبه الدّم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظّفْر من جهة ٱختلاف اللوْنَيْن. الثانية: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التَّنْيِيبِ إذ لا يمكن ٱفتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خَرْقاً ولا أثراً ٱستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان هذا الذئب حكيماً يأكل يوسف ولا يخرق القميص! قاله ابن عباس وغيره روى إسرائيل عن سِماك بن حرب عن عِكرمة عن ابن عباس قال: كان الدم دم سَخْلة. وروى سفيان عن سِماك عن عِكرمة عن ابن عباس قال: لما نظر إليه قال كذبتم لو كان الذئب أكله لخرق القميص. وحكى الماورديّ أن في القميص ثلاث آيات: حين جاءوا عليه بدم كذب، وحين قُدّ قميصه من دبر، وحين ألْقيِ على وجه أبيه فارتدّ بصيراً. قلت: وهذا مردود فإن القميص الذي جاءوا عليه بالدم غير القميص الذي قدّ، وغير القميص الذي أتاه البشير به. وقد قيل: إن القميص الذي قدّ هو الذي أتى به فارتدّ بصيراً، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى. وروي أنهم قالوا له: بل اللصوص قتلوه فاختلف قولهم، فاتهمهم، فقال لهم يعقوب: تزعمون أن الذئب أكله، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده، وما أرى بالقميص من شق وتزعمون أن اللصوص قتلوه، ولو قتلوه لأخذوا قميصه هل يريدون إلا ثيابه؟ فقالوا عند ذلك: «وما أنت بِمؤمِنٍ لنا ولو كنا صادِقِين» عن الحسن وغيره أي لو كنا موصوفين بالصدق لاتهمتنا. الثالثة: ٱستدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأَمَارات في مسائل من الفقه كالقَسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام ٱستدل على كذبهم بصحة القميص وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة ولا خلاف بالحكم بها، قاله ٱبن العربي.

السابقالتالي
2 3