الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ }

فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً } أي ليلاً، وهو ظرف يكون في موضع الحال وإنما جاؤوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بكم؟ أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا. قال: فأين يوسف؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب فبكى وصاح وقال: أين قميصه؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله. وقال السديّ وابن حبّان: إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشياً عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب قال وهب: ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نَفس يعقوب فلم يحسّ بنَفس، ولم يتحرّك له عِرق فقال لهم يهوذا: ويل لنا من ديّان يوم الدّين! ضيّعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السّحر، فأفاق ورأسه في حجر روبيل فقال: يا روبيل! ألم آتمنك على ولدي؟ ألم أعهد إليك عهداً؟ فقال: يا أبت! كُفَّ عنّي بكاءك أخبرك فكفّ يعقوب بكاءه فقال: يا أبت «إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ». الثانية: قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدلّ على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنّعاً فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر. وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى كما قال حكيم:
إذا ٱشتبكتْ دموعٌ في خُدودٍ   تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى