الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } * { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }

قوله تعالى: { قَالُواْ يَـأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ } قيل للحسن: أيحسِد المؤمن؟ قال: ما أنساك ببني يعقوب! ولهذا قيل: الأب جلاّب والأخ سلاّب فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال. وقالوا ليعقوب: «يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ» وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى يعقوب عليه السلام وقالوا هذا القول. وفيه دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى على ما يأتي. قرأ يزيد بن القَعْقَاع وعمرو بن عُبيد والزّهْريّ «لاَ تَأَمَنَّا» بالإدغام، وبغير إشمام وهو القياس لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكناً. وقرأ طلحة بن مُصَرِّف «لاَ تَأْمَنُنّا» بنونين ظاهرتين على الأصل. وقرأ يحيـى بن وثّاب وأبو رَزِين ـ وروي عن الأعمش ـ «لا تِيْمّنَّا» بكسر التاء، وهي لغة تميم يقولون: أنت تِضرب وقد تقدّم. وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدلّ على حال الحرف قبل إدغامه. { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } أي في حفظه وحيطته حتى نردّه إليك. قال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم: «أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً» الآية فحينئذ قال أبوهم: «إنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ» فقالوا حينئذ جواباً لقوله: «مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ» الآية. { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً } إلى الصحراء. { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } «غداً» ظرف، والأصل عند سيبويه غَدْوٌ، وقد نطق به على الأصل قال النّضر بن شميل: ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غُدوة، وكذا بُكرة. «نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ» بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة. والمعروف من قراءة أهل مكة. «نَرْتَعِ» بالنون وكسر العين. وقراءة أهل الكوفة. «يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ» بالياء وإسكان العين. وقراءة أهل المدينة بالياء وكسر العين القراءة الأولى من قول العرب رَتَع الإنسان والبعير إذا أَكَلا كيف شاءا والمعنى: نتسع في الخِصب وكل مخصِب راتع قال:
فـارعَـيْ فـزارةُ لا هَنَـاكِ المَـرْتَـعْ   
وقال آخر:
تَرْتَعُ ما غَفَلتْ حتى إذا ادّكرتْ   فإنمَّا هي إقبالٌ وإدبارُ
وقال آخر:
أكفراً بعد رَدِّ الموتِ عنِّي   وبعد عَطائِكَ المائةَ الرتِّاعَا
أي الراتعة لكثرة المرعى. وروى مَعْمر عن قَتَادة «ترتع» تسعى قال النحاس: أخذه من قوله: «إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ» لأن المعنى: نستبق في العَدْو إلى غاية بعينها وكذا «يرتع» بإسكان العين، إلا أنه ليوسف وحده صلى الله عليه وسلم. و «يرتع» بكسر العين من رعي الغنم، أي ليتدرب بذلك ويترجَّل فمرّة يرتع، ومرة يلعب لصغره. وقال القُتَبيّ «نرتع» نَتَحارس ونَتَحافظ، ويرعى بعضنا بعضاً من قولك: رعاك الله أي حفظك. «ونلعب» من اللعب وقيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا «ونلعب» وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء. وقيل: المراد باللعب المباح من الانبساط، لا اللعب المحظور الذي هو ضدّ الحق ولذلك لم ينكر يعقوب قولهم «ونلعب». ومنه قوله عليه السلام: " فهَلاَّ بِكْراً تُلاعبها وتُلاعبكَ " وقرأ مجاهد وقَتَادة: «يُرتِع» على معنى يُرتِع مطيته، فحذف المفعول «ويَلْعَبُ» بالرفع على الاستئناف والمعنى: هو ممن يلعب. { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } من كل ما تخاف عليه. ثم يحتمل أنهم كانوا يخرجون ركباناً، ويحتمل أنهم كانوا رجّالة. وقد نقل أنهم حملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضراراً به.