الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ }

قوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } هذا ردّ على القائلين:لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } [الأنعام: 8] أي أرسلنا رجالاً ليس فيهم ٱمرأة ولا جِنِّيٌّ ولا مَلَك وهذا يردّ ما يُروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن في النِّساء أربع نبيَّات حَوّاء وآسية وأمّ موسى ومريم ". وقد تقدّم في «آل عمران» شيء من هذا. «مِنْ أَهْلِ الْقُرَى» يريد المدائن ولم يبعث الله نبيًّا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو ولأن أهل الأمصار أعقل وأحلم وأفضل وأعلم. قال الحسن: لم يبعث الله نبيًّا من أهل البادية قطّ، ولا من النِّساء، ولا من الجنّ. وقال قتادة: «مِنْ أَهْلِ الْقُرَى» أي من أهل الأمصار لأنهم أعلم وأحلم. وقال العلماء: مِن شرط الرسول أن يكون رجلاً آدميّا مدنِياً وإنما قالوا آدميّا تحرّزاً من قوله:يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ } [الجن: 6] والله أعلم. قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ } إلى مصارع الأمم المكذِّبة لأنبيائهم فيعتبروا. { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } ٱبتداء وخبره. وزعم الفرّاء أن الدار هي الآخرة وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ، كيوم الخميس، وبارحة الأولى قال الشاعر:
ولو أَقْوَتْ عليكَ دِيارُ عَبْسٍ   عَرَفْتَ الذُّلَّ عِرْفَانَ اليَقينِ
أي عِرْفَاناً يقيناً وٱحتجّ الكسائيّ بقولهم: صلاة الأولى واحتجّ الأخفش بمسجد الجامع. قال النحاس: إضافة الشيء إلى نفسه محال لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليتعرّف به والأجود الصلاة الأولى، ومن قال صلاة الأولى فمعناه: عند صلاة الفريضة الأولى وإنما سمّيت الأولى لأنها أوّل ما صُلّي حين فُرضت الصّلاة، وأوّل ما أظهر فلذلك قيل لها أيضاً الظهر. والتقدير: ولدار الحال الآخرة خير، وهذا قول البصريين والمراد بهذه الدار الجنة أي هي خير للمتقين. وقرىء: «وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ». وقرأ نافع وعاصم ويعقوب وغيرهم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ } تقدّم القراءة فيه ومعناه. { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم. وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف عليه لئلا يزِلّ الإنسان فيكون في سواء الجحيم. المعنى: وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالاً ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب. «حَتَّى إِذَا ٱسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» أي يئسوا من إيمان قومهم. «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا» بالتشديد أي أيقنوا أن قومهم كَذَّبوهم. وقيل المعنى: حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كَذَّبوهم، لا أَنَّ الْقَوْمَ كَذَّبوا، ولكن الأنبياء ظنّوا وحسِبوا أنهم يُكَذِّبونهم أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شكّ فيكون «وَظَنُّوا» على بابه في هذا التأويل. وقرأ ابن عباس وٱبن مسعود وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ وأبو جعفر بن القَعْقَاع والحسن وقَتَادة وأبو رَجَاء العُطَارِديّ وعاصم وحمزة والكسائيّ ويحيـى بن وَثَّاب والأعمش وخَلَف «كُذِبُوا» بالتخفيف أي ظنّ القوم أن الرسل كَذَبوهم فيما أخبروا به من العذاب، ولم يَصدقُوا.

السابقالتالي
2