الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }

فيه ثلاث عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ } القائل هو يهوذا، وهو أكبر ولد يعقوب قاله ابن عباس. وقيل: روبيل، وهو ٱبن خالته، وهو الذي قال: «فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ» الآية. وقيل: شمعون. { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ } قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة «في غيابةِ ٱلجبّ». وقرأ أهل المدينة «فيِ غَيَابَاتِ الْجُبِّ» وٱختار أبو عبيد التوحيد لأنه على موضع واحد ألقوه فيه، وأنكر الجمع لهذا. قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة «وغيابات» على الجمع يجوز من وجهين: حكى سيبويه سِيرَ عليه عشيَّاناتٍ وأصيلاناتٍ، يريد عشِية وأصيلا، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا فكذا جعل كل موضع مما يُغيّب غَيابة. والآخر ـ أن يكون في الجبّ غيابات جماعة. ويقال: غاب يَغيبُ غيَبْا وغَيابة وغِيَابا كما قال الشاعر:
أَلاَ فالبَثَا شهرين أو نصفَ ثالثٍ   أَنَا ذَا كُمَا قد غَيَّبتنْيِ غِيَابِيَا
قال الهرويّ: والغَيابة شبه لَجَفٍ أو طاق في البئر فويق الماء، يغيب الشيء عن العين. وقال ابن عُزَيْز: كل شيء غيّب عنك شيئاً فهو غَيابة. قلت: ومنه قيل للقبر غَيابة قال الشاعر:
فإن أنا يوماً غَيَّبتنيِ غَيَابَتيِ   فَسِيروا بسَيْرِي في العَشِيرِة والأَهل
والجبّ الرَّكِيَّة التي لم تُطْوَ، فإذا طُويت فهي بئر قال الأعشى:
لئن كنتَ في جبٍّ ثمانين قامةً   ورُقِّيتَ أسبابَ السَّماءِ بُسلّمِ
وسميت جُبًّا لأنها قُطِعت في الأرض قَطْعاً وجمع الجبّ جِببة وجِباب وأجباب وجمع بين الغَيابة والجبّ لأنه أراد ألقوه في موضع مظلم من الجبّ حتى لا يلحقه نظر الناظرين. قيل: هو بئر ببيت المقدس، وقيل: هو بالأرْدُن قاله وهب بن منبّه. مقاتل: وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. الثانية: قوله تعالى: { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ } جزم على جواب الأمر. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة: «تَلْتَقِطْهُ» بالتاء، وهذا محمول على المعنى لأن بعض السيّارة سيّارة وقال سيبويه: سقطت بعض أصابعه، وأنشد:
وتَشْرَقَ بالقولِ الّذي قد أَذعتَه   كما شَرِقتْ صَدْرُ القَناةِ من الدَّمِ
وقال آخر:
أَرَى مَرَّ السِّنينَ أَخَذْنَ منيّ   كَمَا أَخَذَ السَّرَارُ من الهِلالِ
ولم يقل شَرِق ولا أخذت. والسيّارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود فإن من التقطه من السيّارة يحمله إلى موضع بعيد وكان هذا وجهاً في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم، فربما لا يأذن لهم أبوهم، وربما يطلع على قصدهم. الثالثة: وفي هذا ما يدلّ على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أوّلاً ولا آخراً لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا. وقيل: كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زِلّة نبيّ، فكانت هذه زلّة منهم وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدّمناه.

السابقالتالي
2 3 4 5