الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

قوله تعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } «ما» نفي و «مِنْ» زائدة و { دَابَّةٍ } في موضع رفع التقدير: وما دابة. { إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } «على» بمعنى «مِن»، أي من الله رزقها يدلّ عليه قول مجاهد: كل ما جاءها من رزق فمن الله. وقيل: { على الله } أي فضلاً لا وجوباً. وقيل: وعداً منه حقاً. وقد تقدّم بيان هذا المعنى في «النساء» وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء. { رِزْقُهَا } رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة وظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص لأن كثيراً من الدواب هلك قبل أن يُرزق. وقيل: هي عامة في كل دابة: وكل دابة لم ترزق رزقاً تعيش به فقد رُزقت رُوحها ووجه النظم بما قبلُ: أنه سبحانه أخبر برزق الجميع، وأنه لا يَغفُل عن تربيته، فكيف تَخفى عليه أحوالكم يا معشر الكفار وهو يرزقكم؟ٰ والدّابة كل حيوان يَدِبُّ. والرزق حقيقته ما يتغذّى به الحيّ، ويكون فيه بقاء رُوحه ونماء جسده. ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك لأن البهائم تُرزق وليس يصح وصفها بأنها مالكة لعَلَفها وهكذا الأطفال تُرزق اللّبن ولا يقال: إن اللّبن الذي في الثّدي ملك للطفل. وقال تعالى:وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } [الذاريات: 22] وليس لنا في السماء ملك ولأن الرزق لو كان ملكاً لكان إذا أكل الإنسان من ملك غيره أن يكون قد أكل من رزق غيره، وذلك محال لأن العبد لا يأكل إلا رزق نفسه. وقد تقدّم في «البقرة» هذا المعنى والحمد لله. وقيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرّحى يأتيها بالطّحين، والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق. وقيل لأبي أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحان الله والله أكبر إن الله يرزق الكلب أفلا يرزق أبا أسيد. وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأن ما له إلا السماء يا هذا الأرضُ له والسماءُ له فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض وأنشد:
وكيف أخافُ الفقرَ والَّلهُ رازقي   ورازق هذا الخلق في العُسْرِ واليُسْرِ
تَكَفَّلَ بالأرزاقِ للخلقِ كُلِّهمْ   وللضَّبِّ في البيداءِ والحُوتِ في البحرِ
وذكر التِّرمذيّ الحكيم في «نوادر الأصول» بإسناده عن زيد بن أسلم: " أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقد أَرْمَلوا من الزاد، فأرسلوا رجلاً منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما ٱنتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } فقال الرجل: ما الأشعريّون بأهون الدواب على الله فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزاً ولحماً فأكلوا منها ما شاؤوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته فقالوا للرجلين: ٱذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به قال: «ما أرسلت إليكم طعاماً» فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع، وما قال لهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك شيء رزقكموه الله ".

السابقالتالي
2