الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } * { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }

قوله تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } «أنه» في موضع رفع على أنه اسم ما لم يُسمَّ فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير بـ «ـأنه». و { آمَنَ } في موضع نصب بـ { ـيؤمن } ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقاً لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال:رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26] الآيتين. وقيل: إن رجلاً من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحاً قال لأبيه: أعطني حجراً فأعطاه حجراً، ورمى به نوحاً عليه السلام فأدماه فأوحى الله تعالى إليه { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ }. { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي فلا تغتَمّ بهلاكهم حتى تكون بائساً أي حزيناً. والبؤس الحزن ومنه قول الشاعر:
وكم مِن خليلٍ أو حميم رُزِئته   فلم أبتئسْ والرُّزءُ فيه جَلِيلُ
يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه. والابتئاس حزن في استكانة. قوله تعالى: { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك. { بِأَعْيُنِنَا } أي بمرأى منا وحيث نراك. وقال الرّبيع بن أنس: بحفظنا إياك حفظ من يَراك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بحراستنا والمعنى واحد فعبّر عن الرؤية بالأعين لأن الرؤية تكون بها. ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى:فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } [المرسلات: 23] «فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ»وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47]. وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين كما قال:وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [طه: 39] وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة، وهو سبحانه منّزه عن الحواسّ والتشبيه والتكييف لا ربّ غيره. وقيل: المعنى «بِأَعْيُنِنَا» أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على حِفظك ومعونتك فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه. وقيل: { بِأَعْيُنِنَا } أي بعلمنا قاله مقاتل: وقال الضّحاك وسفيان: { بِأَعْيُنِنَا } بأمرنا. وقيل: بوحينا. وقيل: بمعونتنا لك على صنعها. { وَوَحْيِنَا } أي على ما أوحينا إليك من صنعتها. { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم.