الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } * { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } * { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } * { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنْفُسِهِمْ إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ }

قوله تعالى: { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ } أي على يقين قاله أبو عِمران الجُونيّ. وقيل: على معجزة وقد تقدّم في «الأنعام» هذا المعنى. { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } أي نبوّة ورسالة عن ٱبن عباس وهي رحمة على الخلق. وقيل: الهداية إلى الله بالبراهين. وقيل: بالإيمان والإسلام. «فَعَمِيَتْ عَلَيْكُمْ» أي عمِيت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها. يقال: عَمِيتُ عن كذا، وعَمِي عليّ كذا أي لم أفهمه. والمعنى: فَعمِيت الرحمةُ فقيل: هو مقلوب لأن الرحمة لا تَعمَى إنما يُعمَى عنها فهو كقولك: أدخلت في القَلَنْسُوة رأسي، ودخل الخفُّ في رجلي. وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي { فَعُمِّيَتْ } بضم العين وتشديد الميم على ما لم يُسمَّ فاعله أي فعمّاها الله عليكم وكذا في قراءة أُبيّ «فعَمَّاها» ذكرها الماورديّ. { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } قيل: شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الهاء ترجع إلى الرحمة. وقيل: إلى البينة أي أنلزمكم قبولها، وأُوجبها عليكم؟ٰ وهو استفهام بمعنى الإنكار أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها وإنما قصد نوح عليه السلام بهذا القول أن يردّ عليهم. وحكى الكسائيّ والفرّاء «أَنُلْزِمْكُمُوهَا» بإسكان الميم الأولى تخفيفاً وقد أجاز مثل هذا سيبويه، وأنشد:
فاليومَ أَشربْ غيرَ مُستَحْقِبٍ   إِثْماً مِنَ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ
وقال النحاس: ويجوز على قول يونس في غير القرآن أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر كما تقول: أنلزمكم ذلك. { وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها. قال قتادة: والله لو ٱستطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك. قوله تعالى: { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به أجراً أي { مَالاً } فيثقل عليكم. { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } أي ثوابي في تبليغ الرسالة. { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به، كما سألت قريش النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء، حسب ما تقدّم في «الأنعام» بيانه فأجابهم بقوله: { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإِعظام لهم بلقاء الله عزّ وجلّ، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله، فيجازيهم على إيمانهم، ويجازي من طردهم. { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } في ٱسترذالكم لهم، وسؤالكم طردهم. قوله تعالى: { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ } قال الفرّاء: أي يمنعني من عذابه. { إِن طَرَدتُّهُمْ } أي لأجل إيمانهم. { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أدغمت التاء في الذال. ويجوز حذفها فتقول: تَذَكَّرون. قوله تعالى: { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } أخبر بتذلّله وتواضعه لله عزّ وجلّ، وأنه لا يدّعي ما ليس له من خزائن الله وهي إنعامه على من يشاء من عباده وأنه لا يعلم الغيب لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ.

السابقالتالي
2