الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } * { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ }

فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } «ألهاكم» شغلكم. قال:
فَأَلْهَيْـتُـهـا عـن ذِي تَـمـائـم مُـغْـيـل   
أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله، حتى مِتم ودفنتم في المقابر. وقيل { أَلْهَاكُمُ }: أنساكم. { ٱلتَّكَّاثُرُ } أي من الأموال والأولاد، قاله ابن عباس والحسن. وقال قتادة: أي التفاخر بالقبائل والعشائر. وقال الضحاك: أي ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة. يقال: لَهِيت عن كذا بالكسر أَلْهى لَهِيًّا ولِهْيَاناً: إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وأضربت عنه. وألهاه: أي شغله. ولهَّاه به تلهية أي عَلَّله. والتكاثر: المكاثرة. قال مقاتل وقتادة وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضُلاَّلاً. وقال ابن زيد: نزلت في فخِذ من الأنصار. وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي: نزلت في حَيَّيْن من قريش: بني عبد مَناف، وبني سَهْم، تعادُّوا وتكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام، فقال كل حيّ منهم نحن أكثر سيداً، وأعز عزيزاً، وأعظم نفراً، وأكثر عائذاً، فكَثَرَ بنو عبد مناف سهماً. ثم تكاثروا بالأموات، فَكَثَرَتْهُمْ سَهْم، فنزلت { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } بأحيائكم فلم ترضَوا { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } مفتخرين بالأموات. وروى سعيد عن قتادة قال: كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعدّ من بني فلان وهم كلَّ يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كُلُّهم. وعن عمرو بن دينار: حلف أن هذه السورة نزلت في التجار. وعن شبيان عن قتادة قال: نزلتْ في أهل الكتاب. قلت: الآية تَعُمّ جميع ما ذكر وغيره. وفي صحيح مسلم عن مُطَرِّف عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } قال: «يقولُ ابنُ آدم: مالي مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيتَ، أو لبستَ فأبلَيتَ، أو تصدّقْتَ فأمضيت وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركُه للناس. وروى البخاريّ عن ابن شهاب: أخبرني أنَس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن لابن آدم وادياً من ذهب، لأحب أن يكون له واديان، ولَنْ يَمْلأ فاه إلاّ الترابُ، ويتوبُ اللَّهُ على من تابَ " قال ثابت عن أنس عن أبيّ: كنا نرى هذا من القرآن، حتى نزلت { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ }. قال ابن العربيّ: وهذا نصّ صحيح مليح، غاب عن أهل التفسير فجهِلوا وجَهَّلوا، والحمد لله على المعرفة. وقال ابن عباس: " قرأ النبي صلى الله عليه وسلم { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } قال: «تَكاثُرُ الأموال: جمعها من غير حقها، ومنعها من حقها، وشدّها في الأوعية» ".

السابقالتالي
2 3