الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } * { فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً }

قوله تعالى: { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } أي الأفراس تعدو. كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة أي تعدو في سبيل الله فتضبح. قال قتادة: تضبح إذا عدت أي تحمحِم. وقال الفراء: الضَّبْح: صوت أنفاس الخيل إذا عَدَوْن. ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضْبَح غير الفرس والكلب والثعلب. وقيل: كانت تُكْعَم لئلا تصهَل، فيعلم العدوّ بهم فكانت تتنفس في هذه الحال بقوّة. قال ابن العربي: أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال:يسۤ * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [يۤس: 1 ـ 2]، وأقسم بحياته فقال:لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الحجر: 72]، وأقسم بخيله وصهيلها وغُبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال: «والعادِيات ضَبْحا»... الآيات الخمس. وقال أهل اللغة:
وَطَعْنةٍ ذاتِ رَشاشٍ واهِيَهْ   طَعَنْتَها عندَ صُدُورِ العَادِيهْ
يعني الخيل. وقال آخر:
والعادياتُ أَسابِيُّ الدماءِ بها   كأنّ أعناقَها أنصاب ترجِيبِ
يعني الخيل. وقال عنترة:
والخيل تعلم حين تَضْـ   ـبَحُ فِي حِياضِ المَوْتِ ضَبْحَا
وقال آخر:
لَسْتُ بالتُّبَّعِ اليمانِيِّ إنْ لَمْ   تَضْبَحِ الخيلُ في سَوادِ العِرَاقِ
وقال أهل اللغة: وأصل الضَّبْح والضُّباح للثعالب فاستعير للخيل. وهو من قول العرب: ضَبَحَتْه النار: إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه. وقال الشاعر:
فَلَمَّا أَنْ تلْهُوجْنَا شِواءً   به اللَّهَبانُ مَقهوراً ضَبِيحاً
وانضبح لونه: إذا تغير إلى السواد قليلاً. وقال:
عَلِقْتُها قَبل انْضِـباحِ لَوْنِي   
وإنما تَضْبَح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فَزَع وتعب أو طمع. ونصب «ضَبْحا» على المصدر أي والعاديات تضبحُ ضَبْحاً. والضَّبِح أيضاً الرّماد. وقال البصريون: { ضَبْحاً } نصب على الحال. وقيل: مصدر في موضع الحال. قال أبو عبيدة: ضَبَحَتِ الخيل ضَبْحاً مثل ضَبَعَتْ وهو السير. وقال أبو عبيدة: الضَّبْح والضَّبْع: بمعنى العدو والسير. وكذا قال المبرد: الضبح مدّ أضباعها في السير. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيّة إلى أناس من بني كِنانة، فأبطأ عليه خبرها، وكان استعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، وكان أحد النقباء فقال المنافقون: إنهم قُتلوا فنزلت هذه السورة إخباراً للنبيّ صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وبشارة له بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم. وممن قال: إن المراد بالعاديات الخيل، ابنُ عباس وأنس والحسن ومجاهد. والمراد الخيل التي يغزو عليها المؤمنون. وفي الخبر: " من لم يعرف حُرْمة فرس الغازي، ففيه شُعبة من النفاق " وقول ثان: أنها الإبل قال مسلم: نازعتُ فيها عكرمة فقال عكرمة: قال ابن عباس هي الخيل. وقلت: قال عليّ هي الإبل في الحج، ومولاي أعلم من مولاك. وقال الشعبيّ: تمارى عليّ وابن عباس في «العاديات»، فقال عليّ: هي الإبِل تعدو في الحج. وقال ابن عباس: هي الخيل ألا تراه يقول { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } فهل تثير إلا بحوافرها! وهل تَضْبَحُ الإبل! فقال علي: ليس كما قلت، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد، وفرس لمرَثد بن أبي مَرْثَد ثم قال له عليّ: أتفتِي الناس بما لا تعلم! والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام وما معنا إلا فرسان: فرس للمقداد، وفرس للزُّبير فكيف تكون العادياتِ ضبحا! إنما العادياتُ الإبل من عَرَفَة إلى المزدلِفة، ومن المزدلِفة إلى عرفة.

السابقالتالي
2 3