الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }

قوله تعالى: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } يقال: هداه للطريق وإلى الطريق بمعنًى واحد وقد تقدم. أي هل من شركائكم من يُرشد إلى دين الإسلام فإذا قالوا لا ولا بدّ منه فـ «قُلْ» لهم { ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } ثم قل لهم موبِّخاً ومقرراً. { أَفَمَن يَهْدِيۤ } أي يرشد. { إِلَى ٱلْحَقِّ } وهو الله سبحانه وتعالى. { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } يريد الأصنام التي لا تهدي أحداً، ولا تمشي إلا أن تُحمل، ولا تنتقل عن مكانها إلا أن تنقل. قال الشاعر:
للفتى عقلٌ يعيش به   حيث تَهْدِي ساقَه قَدَمُهْ
وقيل: المراد الرؤساء والمضلون الذين لا يرشدون أنفسهم إلى هُدًى إلا أن يُرْشَدوا. وفي «يَهدِي» قراءات ست: الأُولى ـ قرأ أهل المدينة إلا وَرْشاً «يَهْدّي» بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال فجمعوا في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله: { لاَ تَعْدُواْ } وفي قوله: «يَخْصِّمُونَ» قال النحاس: والجمع بين الساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد: لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة. الثانية ـ قرأ أبو عمرو وقالون في روايةٍ بين الفتح والإسكان، على مذهبه في الإخفاء والاختلاس. الثالثة ـ قرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن مُحَيْصن «يَهَدّي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال النحاس: هذه القراءة بيّنة في العربية، والأصل فيها يهتدي أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء. الرابعة ـ قرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كَثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا: لأن الجزم إذا ٱضْطُرّ إلى حركته حُرّك إلى الكسر. قال أبو حاتم: هي لغة سُفْلَى مضر. الخامسة ـ قرأ أبو بكر عن عاصم «يِهِدّي» بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، كل ذلك لإتباع الكسر الكسر كما تقدم في البقرة فييَخْطَفُ } [البقرة: 20]. وقيل: هي لغة من قرأ «نِسْتَعِينُ» ولَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ } [آل عمران: 24] ونحوه. وسيبويه لا يجيز «يِهِدّي» ويجيز «تهِدّي» و «نهِدّي» و «إهدي» قال: لأن الكسرة في الياء تثقل. السادسة ـ قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وَثّاب والأعمش «يَهْدِي» بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال من هَدَى يهدي. قال النحاس: وهذه القراءة لها وجهان في العربية وإن كانت بعيدة، وأحد الوجهين أن الكسائي والفراء قالا: «يهدي» بمعنى يهتدي. قال أبو العباس: لا يعرف هذا، ولكن التقدير أمن لا يهدي غيره، تم الكلام، ثم قال: «إلاَّ أَنْ يُهْدَى» استأنف من الأوّل، أي لكنه يحتاج أن يهدى فهو استثناء منقطع، كما تقول فلان لا يُسمِع غيره إلا أن يُسمع، أي لكنه يحتاج أن يُسْمَع. وقال أبو إسحاق: { فَمَا لَكُمْ } كلام تام، والمعنى: فأي شيء لكم في عبادة الأوثان. ثم قيل لهم: { تَحْكُمُونَ } أي لأنفسكم وتقضون بهذا الباطل الصراح، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئاً إلا أن يُفعل بها، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته فموضع «كيف» نصب بـ «تحكمون».