الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ }

وفيه مسائل: المسألة الأولى: أجمع المفسرون على أن المراد: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، ولكنه تعالى ترك التصريح بالذكر، لأن هذا التركيب يدل على عظم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها: أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر. شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التصريح، ألا ترى أنه في السورة المتقدمة لم يذكر اسم أبي جهل ولم يخف على أحد لاشتهاره، وقوله:فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } [الواقعة: 83] لم يذكر الموت لشهرته، فكذا ههنا والثالث: تعظيم الوقت الذي أنزل فيه. المسألة الثانية: أنه تعالى قال في بعض المواضع: { إِنّى } كقوله:إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30] وفي بعض المواضع { إِنَاْ } كقوله: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ }.إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ } [الحجر: 9]،إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً } [نوح:1]،إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ } [الكوثر: 1]. واعلم أن قوله: { إِنَاْ } تارة يراد به التعظيم، وحمله على الجمع محال لأن الدلائل دلت على وحدة الصانع، ولأنه لو كان في الآلهة كثرة لانحطت رتبة كل واحد منهم عن الإلهية، لأنه لو كان كل واحد منهم قادراً على الكمال لاستغنى بكل واحد منهم عن كل واحد منهم، وكونه مستغنى عنه نقص في حقه فيكون الكل ناقصاً، وإن لم يكن كل واحد منهم قادراً على الكمال كان ناقصاً، فعلمنا أن قوله: { إِنَاْ } محمول على التعظيم لا على الجمع. المسألة الثالثة: إن قيل: ما معنى إنه أنزل في ليلة القدر، مع العلم بأنه أنزل نجوماً؟ قلنا فيه وجوه: أحدهما: قال الشعبي: ابتداء بإنزاله ليلة القدر لأن البعث كان في رمضان والثاني: قال ابن عباس: أنزل إلى سماء الدنيا جملة ليلة القدر، ثم إلى الأرض نجوماً، كما قال:فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوٰقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة: 75] وقد ذكرنا هذه المسألة في قوله:شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [البقرة: 185] لا يقال: فعلى هذا القول لم لم يقل: أنزلناه إلى السماء؟ لأن إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض، لأنا نقول: إن إنزاله إلى السماء كإنزاله إلى الأرض، لأنه لم يكن ليشرع في أمر ثم لا يتمه، وهو كغائب جاء إلى نواحي البلد يقال: جاء فلان، أو يقال الغرض من تقريبه وإنزاله إلى سماء الدنيا أن يشوقهم إلى نزوله كمن يسمع الخبر بمجيء منشور لوالده أو أمه، فإنه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً   إذا دنت الديار من الديار
وهذا لأن السماء كالمشترك بيننا وبين الملائكة، فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة، كما قال:وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَاء سَقْفاً } [الأنبياء: 32] فإنزاله القرآن هناك كإنزاله ههنا والوجه الثالث في الجواب: أن التقدير أنزلنا هذا الذكر: في ليلة القدر أي في فضيلة ليلة القدر وبيان شرفها.

السابقالتالي
2 3 4