الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } قال في هذه الآية إنما السبيل على من كان كذا وكذا، ثم الذين قالوا في الآية الأولى المراد { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } في أمر الغزو والجهاد، وأن نفي السبيل في تلك الآية مخصوص بهذا الحكم. قالوا: السبيل الذي نفاه عن المحسنين، هو الذي أثبته في هؤلاء المنافقين، وهو الذي يختص بالجهاد، والمعنى: أن هؤلاء الأغنياء الذين يستأذنونك في التخلف سبيل الله عليهم لازم، وتكليفه عليهم بالذهاب إلى الغزو متوجه، ولا عذر لهم ألبتة في التخلف. فإن قيل: قوله: { رَضُواْ } ما موقعه؟ قلنا: كأنه استئناف، كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء. فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف { وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } يعني أن السبب في نفرتهم عن الجهاد، هو أن الله طبع على قلوبهم، فلأجل ذلك الطبع لا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا. ثم قال: { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } علة للمنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولاً. فإذا علم بأن القوم يكذبونه فيه، وجب عليه تركه. وقوله: { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علة لانتفاء التصديق، لأنه تعالى لما أطلع رسوله على ما في ضمائرهم من الخبث والمكر والنفاق، امتنع أن يصدقهم الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الأعذار. ثم قال: { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } والمعنى أنهم كانوا يظهرون من أنفسهم عند تقرير تلك المعاذير حباً للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وشفقة عليهم ورغبة في نصرتهم، فقال تعالى: { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ } أنكم هل تبقون بعد ذلك على هذه الحالة التي تظهرونها من الصدق والصفاء، أو لا تبقون عليها؟ ثم قال: { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ }. فإن قيل: لماقال: { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ } فلم لم يقل، ثم تردون إليه، وما الفائدة من قوله: { ثُمَّ }. قلنا: في وصفه تعالى بكونه: { عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ } ما يدل على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة، وضمائرهم المملوءة من الكذب والكيد، وفيه تخويف شديد، وزجر عظيم لهم.