الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ } * { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }

واعلم أنه تعالى بين في الآيات المتقدمة أن المنافقين احتالوا في رخصة التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو، وفي هذه الآية زاد دقيقة أخرى، وهي أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد مع الرسول، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو، وقالوا لرسول الله ذرنا نكن مع القاعدين أي مع الضعفاء من الناس والساكنين في البلد. أما قوله: { وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءامِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَـٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ } ففيه أبحاث: البحث الأول: يجوز أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه، وقيل المراد بالسورة هي سورة براءة، لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد. البحث الثاني: قوله: { أن آمنوا بالله } قال الواحدي: موضع { أن } نصب بحذف حرف الجر. والتقدير بأن آمنوا أي بالإيمان؟ البحث الثالث: لقائل أن يقول: كيف يأمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال. أجابوا عنه: بأن معنى أمر المؤمنين بالإيمان الدوام عليه والتمسك به في المستقبل، وأقول لا حاجة إلى هذا الجواب، فإن الأمر متوجه عليهم، وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن التقدير كأنه قيل للمنافقين الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلاً، فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولاً، ثم تشتغلوا بالجهاد ثانياً حتى يفيدكم اشتغالكم بالجهاد فائدة في الدين، ثم حكى تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون، فقال: { ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَـٰعِدِينَ } وفي { أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ } قولان: الأول: قال ابن عباس والحسن: المراد أهل السعة في المال: الثاني: قال الأصم: يعني الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وفي تخصيص { أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ } بالذكر قولان: الأول: أن الذم لهم ألزم لأجل كونهم قادرين على السفر والجهاد، والثاني: أنه تعالى ذكر أولوا الطول لأن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان. ثم قال تعالى: { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوٰلِفِ } وذكرنا الكلام المستقصى في الخالف في قوله: { فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَـٰلِفِينَ } وههنا فيه وجهان: الأول: قال الفراء: { ٱلْخَوَالِفِ } عبارة عن النساء اللاتي تخلفن في البيت فلا يبرحن، والمعنى: رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء. الثاني: يجوز أيضاً أن يكون الخوالف جمع خالفة في حال. والخالفة الذي هو غير نجيب. قال الفراء: ولم يأت فاعل صيغة جمعه فواعل، إلا حرفان: فارس وفوارس، وهالك وهوالك، والقول الأول أولى، لأن أدل على القلة والذلة. قال المفسرون: وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف. ثم قال: { وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } وقد عرفت أن الطبع والختم عبارة عندنا عن حصول الداعية القوية للكفر المانعة من حصول الإيمان، وذلك لأن الفعل بدون الداعي لما كان محالاً، فعند حصول الداعية الراسخة القوية للكفر، صار القلب كالمطبوع على الكفر، ثم حصول تلك الداعية إن كان من العبد لزم التسلسل، وإن كان من الله فالمقصود حاصل.

السابقالتالي
2