الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ }

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن عاقبة هؤلاء المنافقين هي العذاب في الدنيا وفي الآخرة، بين أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة، والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم، وأن أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا وفي الآخرة، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي { كَرْهاً } بضم الكاف ههنا، وفي النساء والأحقاف، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة، وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك. فقيل: هما لغتان. وقيل: بالضم المشقة وبالفتح ما أكرهت عليه. المسألة الثانية: قال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به. واعلم أن السبب وإن كان خاصاً إلا أن الحكم عام، فقوله: { أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } وإن كان لفظه لفظ أمر، إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء. والمعنى: سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم. واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان، فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر. أما إقامة الأمر مقام الخبر، فكما ههنا، وكما في قوله:ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [التوبة: 80] وفي قوله:قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } [مريم: 75] وأما إقامة الخبر مقام الأمر، فكقوله:وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ } [البقرة: 233]والمطلقات يتربصن بأنفسهن } [البقرة: 228] وقال كثير:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة   لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله: { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } يريد طائعين أو كارهين. وفيه وجهان: الأول: طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو مكرهين من قبل الله ورسوله، وسمى الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون، فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه، والثاني: أن يكون التقدير: طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون الاتباع على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم. ثم قال تعالى: { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } يحتمل أن يكون المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتقبل تلك الأموال منهم، ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله. ثم قال تعالى: { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَـٰسِقِينَ } وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين. قال الجبائي: دلت الآية على أن الفسق يحبط الطاعات، لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة، وعلل ذلك بكونهم فاسقين، ومعنى التقبل هو الثواب والمدح، وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح، فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى، ثم إن الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين، والجمع بينهما محال.

السابقالتالي
2