الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } * { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى:أَلاَ تُقَـٰتِلُونَ قَوْماً } ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال. ثم إنه تعالى في هذه الآية أعاد الأمر بالقتال وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف بها إذا اجتمعت؟ فأولها: قوله: { يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } وفيه مباحث: البحث الأول: أنه تعالى سمى ذلك عذاباً وهو حق فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا وإن شاء أخره إلى الآخرة. البحث الثاني: أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة والأسر أخرى واغتنام الأموال ثالثاً، فيدخل فيه كل ما ذكرناه. فإن قالوا: أليس أنه تعالى قال:وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33] فكيف قال ههنا: { يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }. قلنا: المراد من قوله: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } عذاب الاستئصال، والمراد من قوله: { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } عذاب القتل والحرب، والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب، أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصوراً على المذنب. البحث الثالث: احتج أصحابنا على قولهم بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله: { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى، إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد، وهو صريح قولنا ومذهبنا أجاب الجبائي عنه فقال: لو جاز أن يقال إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين، ولجاز أن يقال إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنه تعالى خالق لذلك، فلما لم يجز ذلك عند المجبرة، علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير، وأجاب أصحابنا عنه فقالوا: أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان، كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام ثم إنا لا نقول يا خالق الأبوال والعذرات، ويا مكون الخنافس والديدان، فكذا ههنا وأيضاً أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار الله تعالى وتيسيره، ثم لا يجوز أن يقال: يا مسهل الزنا واللواط، ويا دافع الموانع عنها، فكذا هنا، أما قوله إن المراد إذن الأقدار فنقول هذا صرف للكلام عن ظاهره، وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر، والدليل القاهر من جانبنا ههنا، فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة، وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى.

السابقالتالي
2 3