الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ }

اعلم أنه نقل عن الحسن أنه قال: هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة، ثم إنها صارت منسوخة بقوله:قَاتَلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } [التوبة: 36] وأما المحققون فإنهم أنكروا هذا النسخ وقالوا: إنه تعالى لما أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم في ذلك الباب إلى الطريق الأصوب الأصلح، وهو أن يبتدؤا من الأقرب فالأقرب، منتقلاً إلى الأبعد فالأبعد. ألا ترى أن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب قال تعالى:وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب لأنه عليه السلام حارب قومه، ثم انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثم انتقل منهم إلى غزو الشام، والصحابة رضي الله عنهم لما فرغوا من أمر الشأم دخلوا العراق. وإنما قلنا: إن الابتداء بالغزو من المواضع القريبة أولى لوجوه: الأول: أن مقابلة الكل دفعة واحدة متعذرة، ولما تساوى الكل في وجوب القتال لما فيهم من الكفر والمحاربة وامتنع الجمع، وجب الترجيح، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة، وكما في سائر المهمات، ألا ترى أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة لهذا المهم، فوجب الابتداء بالأقرب. والثاني: أن الابتداء بالأقرب أولى لأن النفقات فيه أقل، والحاجة إلى الدواب والآلات والأدوات أقل. الثالث: أن الفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة. الرابع: أن المجاورين لدار الإسلام إما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء، فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين، والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع، وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل، وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر، فكان الابتداء بهم أولى. الخامس: أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه، وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم. السادس: أن دار الإسلام واسعة، فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل، وحصول المقصود أيسر. السابع: أنه إذا اجتمع واجبان وكان أحدهما أيسر حصولاً وجب تقديمه، والقرب سبب السهولة، فوجب الابتداء بالأقرب. الثامن: أنا بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ في الدعوة بالأقرب فالأقرب، وفي الغزو بالأقرب فالأقرب، وفي جميع المهمات كذلك. فإن الأعرابي لما جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال عليه السلام له: " كل مما يليك " فدلت هذه الوجوه على أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب. فإن قيل: ربما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح، لأن الأبعد يقع في قلبه أنه إنما جاوز الأقرب لأنه لا يقيم له وزناً.

السابقالتالي
2