الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه { ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } بين في هذه الآية أن أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة. وفيه مسألتان: المسألة الأولى: في رفع قوله: { ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ } وجوه: الأول: أنه رفع على المدح، والتقدير: هم التائبون، يعني المؤمنين المذكورين في قوله: { ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } هم التائبون. الثاني: قال الزجاج: لا يبعد أن يكون قوله: { ٱلتَّـٰئِبُونَ } مبتدأ، وخبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً، وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى: { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } وهذا وجه حسن. لأن على هذا التقدير يكون الوعد بالجنة حاصلاً لجميع المؤمنين، وإذا جعلنا قوله: { ٱلتَّـٰئِبُونَ } تابعاً لأول الكلام كان الوعد بالجنة حاصلاً للمجاهدين. الثالث: { ٱلتَّـٰئِبُونَ } مبتدأ أو رفع على البدل من الضمير في قوله: { يُقَـٰتَلُونَ } الرابع: قوله: { ٱلتَّـٰئِبُونَ } مبتدأ، وقوله: { ٱلْعَـٰبِدُونَ } إلى آخر الآية خبر بعد خبر، أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. وقرأ أبي وعبد الله { التائبين } بالياء إلى قوله: { وَٱلْحَـٰفِظِينَ } وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك نصباً على المدح. الثاني: أن يكون جراً، صفة للمؤمنين. المسألة الثانية: في تفسير هذه الصفات التسعة. فالصفة الأولى: قوله: { ٱلتَّـٰئِبُونَ } قال ابن عباس رضي الله عنه: التائبون من الشرك. وقال الحسن: التائبون من الشرك والنفاق. وقال الأصوليون: التائبون من كل معصية، وهذا أولى، لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر، وقد تكون من المعصية. وقوله: { ٱلتَّـٰئِبُونَ } صيغة عموم محلاة بالألف واللام، فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم. واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة:فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [البقرة: 37]. واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة: أولها: احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه، وثانيها: ندمه على ما مضى، وثالثها: عزمه على الترك في المستقبل، ورابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض، فهو ليس من التائبين. والصفة الثانية: قوله تعالى: { ٱلْعَـٰبِدُونَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم. وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة، وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم الله تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم، ولابن عباس رضي الله عنهما: أن يقول إن معرفة الله والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب، وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية.

السابقالتالي
2 3 4 5