الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } * { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ }

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وحده { إِذْ } بالتاء على تأنيث لفظ الملائكة والجمع، والباقون بالياء على المعنى. المسألة الثانية: جواب { عَلَيْهِمْ لَوْ } محذوف. والتقدير: لرأيت منظراً هائلاً، وأمراً فظيعاً، وعذاباً شديداً. المسألة الثالثة: { وَلَوْ تَرَى } ولو عاينت وشاهدت، لأن لو ترد المضارع إلى الماضي كما ترد إن الماضي إلى المضارع. المسألة الرابعة: الملائكة رفعها بالفعل، ويضربون حال منهم، ويجوز أن يكون في قوله: { يَتَوَفَّى } ضمير لله تعالى، والملائكة مرفوعة بالابتداء، ويضربون خبر. المسألة الخامسة: قال الواحدي: معنى يتوفى الذين كفروا يقبضون أرواحهم على استيفائها وهذا يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد، وأنه هو الروح فقط لأن قوله: { يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يدل على أنه استوفى الذات الكافرة، وذلك يدل على أن الذات الكافرة هي التي استوفيت من هذا الجسد، وهذا برهان ظاهر على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد، وقوله: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ } قال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح، وأقول فيه معنى آخر ألطف منه، وهو أن روح الكافر إذا خرج من جسده فهو معرض عن عالم الدنيا مقبل على الآخرة، وهو لكفره لا يشاهد في عالم الآخرة إلا الظلمات، وهو لشدة حبه للجسمانيات، ومفارقته لها لا ينال من مباعدته عنها إلا الآلام والحسرات، فسبب مفارقته لعالم الدنيا تحصل له الآلام بعد الآلام والحسرات، وبسبب إقباله على الآخرة مع عدم النور والمعرفة، ينتقل من ظلمات إلى ظلمات، فهاتان الجهتان هما المراد من قوله: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ }. ثم قال تعالى: { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } وفيه إضمار، والتقدير: ونقول ذوقوا عذاب الحريق ونظيره في القرآن كثير قال تعالى:وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } [البقرة: 127] أي ويقولان ربنا، وكذا قوله تعالى:وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا } [السجدة: 12] أي يقولون ربنا. قال ابن عباس: قول الملائكة لهم: { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } إنما صح لأنه كان مع الملائكة مقامع، وكلما ضربوا بها التهبت النار في الأجزاء والأبعاض، فذاك قوله: { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } قال الواحدي: والصحيح أن هذا تقوله الملائكة لهم في الآخرة. وأقول: أما العذاب الجسماني فحق وصدق. وأما الروحاني فحق أيضاً لدلالة العقل عليه، وذلك لأنا بينا أن الجاهل إذا فارق الدنيا حصل له الحزن الشديد بسبب مفارقة الدنيا المحبوبة، والخوف الشديد بسبب تراكم الظلمات عليه في عالم الخوف والحزن.

السابقالتالي
2