الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }

اعلم أنه تعالى لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقوله:وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } [الأنفال: 26] فكذلك ذكر رسوله نعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه، وهذه السورة مدنية. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين: إن مشركي قريش تآمروا في دار الندوة ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وذكر أنه من أهل نجد. فقال بعضهم: قيدوه نتربص به ريب المنون، فقال إبليس: لا مصلحة فيه، لأنه يغضب له قومه فتسفك له الدماء. وقال بعضهم أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم، فقال إبليس: لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم. وقال أبو جهل: الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلاً فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية، فقال إبليس: هذا هو الرأي الصواب، فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة، وأمر علياً أن يبيت في مضجعه، وقال له: تسج ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم. وقوله: { لِيُثْبِتُوكَ } قال ابن عباس: ليوثقوك ويشدوك وكل من شد فقد أثبت، لأنه لا يقدر على الحركة ولهذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحه تمنعه من الحركة. فقد أثبت فلان فهو مثبت، وقيل ليسجنوك، وقيل ليحبسوك، وقيل ليثبتوك في بيت فحذف المحل لوضوح معناه، وقرأ بعضهم { لِيُثْبِتُوكَ } بالتشديد وقرأ النخعى { لِيُثْبِتُوكَ } من البيات وقوله: { أَوْ يَقْتُلُوكَ } وهو الذي حكيناه عن أبي جهل لعنه الله { أَوْ يُخْرِجُوكَ } أي من مكة، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الثلاثة قال: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } وقد ذكرنا في سورة آل عمران في تفسير قوله:وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } [آل عمران: 54] تفسير المكر في حق الله تعالى، والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد والله تعالى نصره وقواه، فضاع فعلهم وظهر صنع الله تعالى. قال القاضي: القصة التي ذكرها ابن عباس موافقة للقرآن إلا ما فيها من حديث إبليس، فإنه زعم أنه كانت صورته موافقة لصورة الإنس وذلك باطل، لأن ذلك التصوير إما أن يكون من فعل الله أو من فعل إبليس، والأول باطل لأنه لا يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ليفتن الكفار في المكر، والثاني أيضاً باطل، لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يقدر إبليس على تغيير صورة نفسه. واعلم أن هذا النزاع عجيب، فإنه لما لم يبعد من الله تعالى أن يقدر إبليس على أنواع الوساوس فكيف يبعد منه أن يقدره على تغيير صورة نفسه؟ فإن قيل: كيف قال: { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } ولا خير في مكرهم.

السابقالتالي
2