الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

واعلم أنه تعالى لما حذر عن الفتنة بالأموال والأولاد، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إدخال الشرط في الحكم إنما يحسن في حق من كان جاهلاً بعواقب الأمور، وذلك لا يليق بالله تعالى. والجواب: أن قولنا إن كان كذا كان كذا، لا يفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء، فأما أن وقوع الشرط مشكوك فيه أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللفظ، سلمنا أنه يفيد هذا الشك إلا أنه تعالى يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك، وعليه يخرج قوله تعالى:وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ } [محمد: 31]. المسألة الثانية: هذه القضية الشرطية شرطها شيء واحد وهو تقوى الله تعالى، وذلك يتناول اتقاء الله في جميع الكبائر. وإنما خصصنا هذا بالكبائر لأنه تعالى ذكر في الجزاء تكفير السيئات، والجزاء يجب أن يكون مغايراً للشرط، فحملنا التقوى على تقوى الكبائر وحملنا السيئات على الصغائر ليظهر الفرق بين الشرط والجزاء، وأما الجزاء المرتب على هذا الشرط فأمور ثلاثة: الأول: قوله: { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } والمعنى أنه تعالى يفرق بينكم وبين الكفار. ولما كان اللفظ مطلقاً وجب حمله على جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار فنقول: هذا الفرقان إما أن يعتبر في أحوال الدنيا أو في أحوال الآخرة. أما في أحوال الدنيا فإما أن يعتبر في أحوال القلوب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة، أما في أحوال القلوب فأمور: أحدها: أنه تعالى يخص المؤمنين بالهداية والمعرفة. وثانيها: أنه يخص قلوبهم وصدورهم بالانشراح كما قال:أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ } [الزمر: 22] وثالثها: أنه يزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ويزيل المكر والخداع عن صدورهم، مع أن المنافق والكافر يكون قلبه مملوءاً من هذه الأحوال الخسيسة والأخلاق الذميمة، والسبب في حصول هذه الأمور أن القلب إذا صار مشرقاً بطاعة الله تعالى زالت عنه كل هذه الظلمات لأن معرفة الله نور، وهذه الأخلاق ظلمات، وإذا ظهر النور فلا بد من زوال الظلمة. وأما في الأحوال الظاهرة، فإن الله تعالى يخص المسلمين بالعلو والفتح والنصر والظفر، كما قال:وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقين: 8] وكما قال:لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ } [التوبة: 33] وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك. وأما في أحوال الآخرة، فالثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة وكل هذه الأحوال داخلة في الفرقان. والنوع الثاني: من الأجزية المرتبة على التقوى قوله: { وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } فنقول: إن حملنا قوله: { إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ } على الاتقاء من الكفر، كان المراد بقوله: { وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } جميع السيئات التي وجدت قبل الكفر، وإن حملناه على الاتقاء عن الكبائر، كان المراد من هذا تكفير الصغائر.

السابقالتالي
2