الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } * { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } * { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } * { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } * { فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً } * { عُذْراً أَوْ نُذْراً }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن هذه الكلمات الخمس إما أن يكون المراد منها جنساً واحداً أو أجناساً مختلفة أما الاحتمال الأول: فذكروا فيه وجوهاً الأول: أن المراد منها بأسرها الملائكة فالمرسلات هم الملائكة الذين أرسلهم الله إما بإيصال النعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين، وقوله: { عُرْفاً } فيه وجوه: أحدها: متتابعة كشعر العرف يقال: جاؤا عرفاً واحداً وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه والثاني: أن يكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكرة فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة، فهذا المعنى فيهم ظاهر وإن كانوا لأجل العذاب فذلك العذاب، وإن لم يكن معروفاً للكفار، فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم. والثالث: أن يكون مصدراً كأنه قيل: والمرسلات أرسالاً أي متتابعة وانتصاب عرفاً على الوجه الأول على الحال، وعلى الثاني لكونه مفعولاً أي أرسلت للإحسان والمعروف وقوله: { فَٱلْعَـٰصِفَـٰتِ عَصْفاً } فيه وجهان الأول: يعني أن الله تعالى لما أرسل أولئك الملائكة فهم عصفوا في طيرانهم كما تعصف الرياح. والثاني: أن هؤلاء الملائكة يعصفون بروح الكافر يقال: عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، يقال: ناقة عصوف، أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم، أي ذهبت بهم، قال الشاعر:
في فيلق شهباء ملمومة   تعصف بالمقبل والمدبر
وقوله تعالى: { وٱلنَّـٰشِرٰتِ نَشْراً } معناه أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، أو نشروا الشرائع في الأرض، أو نشروا الرحمة أو العذاب، أو المراد الملائكة الذين ينشرون الكتب يوم الحساب، وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم، قال تعالى:وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كِتَابًا يَلْقَـٰهُ مَنْشُوراً } [الإسراء:13] وبالجملة فقد نشروا الشيء الذي أمروا بإيصاله إلى أهل الأرض ونشره فيهم وقوله تعالى: { فَٱلْفَـٰرِقَـٰتِ فَرْقاً } معناه أنهم يفرقون بين الحق والباطل، وقوله: { فَٱلْمُلْقِيَـٰتِ ذِكْراً } معناه أنهم يلقون الذكر إلى الأنبياء، ثم المراد من الذكر يحتمل أن يكون مطلق العلم والحكمة، كما قال:يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ } [النحل: 2] ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن خاصة، وهو قوله:أألقي الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [القمر:25] وقوله:وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبُ } [القصص:86] وهذا الملقى وإن كان هو جبريل عليه السلام وحده، إلا أنه يجوز أن يسمى الواحد باسم الجماعة على سبيل التعظيم. واعلم أنك قد عرفت أن المقصود من القسم التنبيه على جلالة المقسم به، وشرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه أحدها: شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى، كما قال تعالى:وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 50]لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 27] وثانيها: أنهم أقسام: فمنهم من يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء، ومنهم من يرسل للزوم بني آدم لكتابة أعمالهم طائفة منهم بالنهار وطائفة منهم بالليل، ومنهم من يرسل لقبض أرواح بني آدم، ومنهم من يرسل بالوحي من سماء إلى أخرى، إلى أن ينزل بذلك الوحي ملك السماء إلى الأرض، ومنهم الملائكة الذين ينزلون كل يوم من البيت المعمور إلى الكعبة على ما روي ذلك في الإخبار، فهذا مما ينتظمه قوله: { وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ عُرْفاً } ثم ما فيها من سرعة السير، وقطع المسافات الكثيرة في المدة اليسيرة، كقوله:

السابقالتالي
2 3 4 5