الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

اعلم أن هذا هو القصة الخامسة، وقد ذكرنا أن التقدير: { وَأَرْسَلْنَا إِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَـٰهُمْ شُعَيْباً } وذكرنا أن هذه الأخوة كانت في النسب لا في الدين، وذكرنا الوجوه فيه، واختلفوا في مدين فقيل: إنه اسم البلد، وقيل: إنه اسم القبيلة بسبب أنهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام، ومدين صار اسماً للقبيلة، كما يقال: بكر وتميم وشعيب من أولاده، وهو: شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن. واعلم أنه تعالى حكى عن شعيب أنه أمر قومه في هذه الآية بأشياء: الأول: أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله، وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء. فقال: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَالَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } والثاني: أنه ادعى النبوة فقال: { قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } ويجب أن يكون المراد من البينة ههنا المعجزة، لأنه لا بد لمدعي النبوة منها، وإلا لكان متنبئاً لا نبياً، فهذه الآية دلت على أنه حصلت له معجزة دالة على صدقه. فأما أن تلك المعجزة من أي الأنواع كانت فليس في القرآن دلالة عليه، كما لم يحصل في القرآن الدلالة على كثير من معجزات رسولنا. قال صاحب «الكشاف»: ومن معجزات شعيب أنه دفع إلى موسى عصاه، وتلك العصا حاربت التنين، وأيضاً قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه. ثم قال: وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام، لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة. واعلم أن هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين أصحابنا، وبين المعتزلة وذلك لأن عندنا أن الذي يصير نبياً ورسولاً بعد ذلك، يجوز أن يظهر الله عليه أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي، ويسمى ذلك إرهاصاً للنبوة، فهذا الإرهاص عندنا جائز، وعند المعتزلة غير جائز، فالأحوال التي حكاها صاحب «الكشاف» هي عندنا إرهاصات لموسى عليه السلام، وعند المعتزلة معجزات لشعيب لما أن الإرهاص عندهم غير جائز، والثالث: أنه قال: { فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ }. واعلم أن عادة الأنبياء عليهم السلام إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالاً أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدأوا يمنعهم عن ذلك النوع، وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف، فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة فقال: { فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ } وههنا سؤالان: السؤال الأول: الفاء في قوله: { فَأَوْفُواْ } توجب أن تكون للأمر بإيفاء الكيل كالمعلول والنتيجة عما سبق ذكره وهو قوله: { قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ } فكيف الوجه فيه؟ والجواب: كأنه يقول البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشيء القليل. وهو أمر مستقبح في العقول، ومع ذلك قد جاءت البينة والشريعة الموجبة للحرمة، فلم يبق لكم فيه عذر { فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ }.

السابقالتالي
2