الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

اعلم أنه تعالى لما عظم شأن القرآن بقوله:هَـٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } [الأعراف: 203] أردفه بقوله: { وَإِذَا قُرِىء ٱلْقُرْءانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: الإنصات السكوت والاستماع، يقال: نصت، وأنصت، وانتصت، بمعنى واحد. المسألة الثانية: لا شك أن قوله: { فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } أمره، وظاهر الأمر للوجوب، فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً، وللناس فيه أقوال. القول الأول: وهو قول الحسن وقول أهل الظاهر أنا نجري هذه الآية على عمومها ففي أي موضع قرأ الإنسان القرآن وجب على كل أحد استماعه والسكوت، فعلى هذا القول يجب الإنصات لعابري الطريق، ومعلمي الصبيان. والقول الثاني: أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية، وأمروا بالإنصات، وقال قتادة: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم، كم صليتم وكم بقي؟ وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والقول الثالث: أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام. قال ابن عباس قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم، فخلطوا عليه، فنزلت هذه الآية وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. والقول الرابع: أنها نزلت في السكوت عند الخطبة، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وهذا القول منقول عن الشافعي رحمه الله، وكثير من الناس قد استبعد هذا القول، وقال اللفظ عام وكيف يجوز قصره على هذه الصورة الواحدة. وأقول هذا القول في غاية البعد لأن لفظة إذا تفيد الارتباط، ولا تفيد التكرار، والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار مرة واحدة طلقت طلقة واحدة، فإذا دخلت الدار ثانياً لم تطلق بالاتفاق لأن كلمة { إِذَا } لا تفيد التكرار. إذا ثبت هذا فنقول: قوله: { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْءانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } لا يفيد إلا وجوب الإنصات مرة واحدة، فلما أوجبنا الاستماع عند قراءة القرآن في الخطبة، فقد وفينا بموجب اللفظ ولم يبق في اللفظ دلالة على ما وراء هذه الصورة، سلمنا أن اللفظ يفيد العموم إلا أنا نقول بموجب الآية، وذلك لأن عند الشافعي رحمه الله: يسكت الإمام، وحينئذ يقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام كما قال أبو سلمة للإمام سكتتان، فاغتنم القراءة في أيهما شئت، وهذا السؤال أورده الواحدي في «البسيط». ولقائل أن يقول: سكوت الإمام إما أن نقول: إنه من الواجبات أو ليس من الواجبات والأول باطل بالإجماع والثاني يقتضي أن يجوز له أن لا يسكت. فبتقدير: أن لا يسكت يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام، وذلك يفضي إلى ترك الاستماع، وإلى ترك السكوت عند قراءة الإمام، وذلك على خلاف النص، وأيضاً فهذا السكوت ليس له حد محدود ومقدار مخصوص والسكتة للمأمومين مختلفة بالثقل والخفة، فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام، وحينئذ يلزم المحذور المذكور، وأيضاً فالإمام إنما يبقى ساكتاً ليتمكن المأموم من إتمام القراءة، وحينئذ ينقلب الإمام مأموماً، والمأموم إماماً، لأن الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم، وذلك غير جائز، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الواحدي غير جائز، وذكر الواحدي سؤالاً ثانياً على التمسك بالآية.

السابقالتالي
2 3