الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }

فقال: { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } واعلم أن دلائل ملكوت السماوات والأرض على وجود الصانع الحكيم القديم كثيرة، وقد فصلناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة.ثم قال: { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء } والمقصود التنبيه على أن الدلائل على التوحيد غير مقصورة على السماوات والأرض. بل كل ذرة من ذرات عالم الأجسام والأرواح فهي برهان باهر، ودليل قاهر على التوحيد، ولنقرر هذا المعنى بمثال. فنقول: إن الضوء إذا وقع على كوة البيت ظهر الذرات والهباآت، فلنفرض الكلام في ذرة واحدة من تلك الذرات فنقول: إنها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية، وذلك لأنها مختصة بحيز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له، وكل حيز من تلك الأحياز الغير المتناهية، فرضنا وقوع تلك الذرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيز المعين من الممكنات والجائزات، والممكن لا بد له من مخصص ومرجح وذلك المخصص إن كان جسماً عاد السؤال فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه، وأيضاً فتلك الذرة لا تخلو عن الحركة والسكون، وكل ما كان كذلك فهو محدث، وكل محدث فإن حدوثه لا بد وأن يكون مختصاً بوقت معين مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده، فاختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه، لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم فإن كان ذلك المخصص جسماً عاد السؤال فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه وتعالى، وأيضاً أن تلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجمية. ومخالفة لها في اللون والشكل والطبع والطعم وسائر الصفات. واختصاصها بكل تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام، لا بد وأن يكون من الجائزات، والجائز لا بد له من مرجح، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البحث الأول فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصانع من جهات غير متناهية، واعتبارات غير متناهية، وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني، مفرداته ومركباته وسفلياته وعلوياته وعند هذا يظهر لك صدق ما قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية   تدل على أنه واحد
وإذا عرفت هذا فحينئذ ظهرت الفائدة لك من قوله تعالى: { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء } ولما نبه الله تعالى على هذه الأسرار العجيبة والدقائق اللطيفة، أردفه بما يوجب الترغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكر فقال: { وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } ولفظة { أن } في قوله: { وَأَنْ عَسَىٰ } هي المخففة من الثقيلة تقديره: وأنه عسى، والضمير ضمير الشأن، والمعنى: لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار، وإذا كان هذا الاحتمال قائماً وجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة، والمبادرة إلى هذه الرؤية، سعياً في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم، ولما ذكر تعالى هذه البيانات الجلية والدلائل العقلية قال: { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون } [الأعراف: 185] وذلك لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه التنبيهات الظاهرة والبينات الباهرة، فكيف يرضى منهم الإيمان بغيره.

السابقالتالي
2 3