الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }

اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى، وما عليهم من الوعيد، فقال: { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } وهذا يتناول جميع المكذبين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: المراد أهل مكة، وهو بعيد، لأن صفة العموم يتناول الكل، إلا ما دل الدليل على خروجه منه. وأما قوله: { سَنَسْتَدْرِجُهُم } فالاستدراج الاستفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال، درجة بعد درجة، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم، مات بعضهم عقيب بعضهم، ويحتمل أن يكون هذا اللفظ مأخوذ من الدرج وهو لف الشيء وطيه جزأ فجزأ. إذا عرفت هذا فالمعنى سنقربهم إلى ما يهلكهم، ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، وذلك لأنهم كلما أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم باباً من أبواب النعمة والخير في الدنيا، فيزدادون بطراً وانهماكاً في الفساد وتمادياً في الغي، ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم، ثم يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى: «اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول { سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }. ثم قال تعالى: { وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } الإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة ونقيضه الإعجال والملى زمان طويل من الدهر ومنه قوله:وَٱهْجُرْنِى مَلِيّاً } [مريم: 46] أي طويلاً. ويقال ملوة وملوة وملاوة من الدهر أي زمان طويل، فمعنى { وَأُمْلِى لَهُمْ } أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة. وقوله: { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } قال ابن عباس: يريد إن مكري شديد، والمتين من كل شيء هو القوي يقال متن متانة. واعلم أن أصحابنا احتجوا في مسألة القضاء والقدر بهذه الألفاظ الثلاثة، وهي الاستدراج والإملاء والكيد المتين، وكلها تدل على أنه تعالى أراد بالعبد ما يسوقه إلى الكفر والبعد عن الله تعالى، وذلك ضد ما يقوله المعتزلة. أجاب أبو علي الجبائي، بأن المراد من الاستدراج، أنه تعالى استدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلون، استدراجاً لهم إلى ذلك حتى يقعوا فيه بغتة، وقد يجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل والاستئصال، ويجوز أن يكون عذاب الآخرة. قال وقد قال بعض المجبرة المراد: سنستدرجهم إلى الكفر من حيث لا يعلمون. قال: وذلك فاسد، لأن الله تعالى أخبر بتقدم كفرهم، فالذي يستدرجهم إليه فعل مستقبل، لأن السين في قوله: { سَنَسْتَدْرِجُهُم } يفيد الاستقبال، ولا يجب أن يكون المراد: أن يستدرجهم إلى كفر آخر لجواز أن يميتهم قبل أن يوقعهم في كفر آخر، فالمراد إذن: ما قلناه، ولأنه تعالى لا يعاقب الكافر بأن يخلق فيه كفراً آخر، والكفر هو فعله، وإنما يعاقبه بفعل نفسه.

السابقالتالي
2