الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } * { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }

اعلم أن بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض فرعون لموسى ولا أخذه ولا حبسه، بل خلى سبيله فقال قومه له: { أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ }. واعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف، فلهذا السبب لم يتعرض له إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك، فحملوه على أخذه وحبسه. وقوله: { لِيُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } أي يفسدوا على الناس دينهم الذي كانوا عليه، وإذا أفسدوا عليهم أديانهم توسلوا بذلك إلى أخذ الملك. أما قوله: { وَيَذَرَكَ } فالقراءة المشهورة فيه { وَيَذَرَكَ } بالنصب. وذكر صاحب «الكشاف»: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون قوله: { وَيَذَرَكَ } عطفاً على قوله: { لِيُفْسِدُواْ } لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، كان ذلك مؤدياً إلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. وثانيها: أنه جواب للاستفهام بالواو، وكما يجاب بالفاء مثل قول الحطيئة:
ألم أكُ جارَكم ويكون بيني   وبينكم المودة والآخاءُ؟
والتقدير: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض فيذرك وآلهتك. قال الزجاج: والمعنى أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى؟ وثالثها: النصب بإضمار أن تقديره: أتذر موسى وقومه ليفسدوا وأن يذرك وآلهتك؟ قال صاحب «الكشاف»: وقرىء { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } بالرفع عطفاً على { أَتَذَرُ } بمعنى أتذره ويذرك؟ أي انطلق له، وذلك يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى أتذره هو يذرك وإلهتك؟ وقرأ الحسن { وَيَذَرَكَ } بالجزم، وقرأ أنس { ونذرك } بالنون والنصب، أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها. وأما قوله: { وَءالِهَتَكَ } قال أبو بكر الأنباري: كان ابن عمر ينكر قراءة العامة، ويقرأ إلاهتك أي عبادتك، ويقول إن فرعون كان يعبد ولا يعبد، قال ابن عباس: أما قراءة العامة { وَءالِهَتَكَ } فالمراد جمع إله، وعلى هذا التقدير: فقد اختلفوا فيه. فقيل إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناماً صغاراً، وأمرهم بعبادتها. وقال: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ } ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ } وقال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام. وأقول: الذي يخطر ببالي إن فرعون إن قلنا: إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه، وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل. بل الأقرب أن يقال إنه كان دهرياً ينكر وجود الصانع، وكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب، وأما المجدي في هذا العلم للخلق، ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه، فقوله: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ } أي مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم. وقوله:مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنَ إِلَـٰهٍ غَيْرِى } [القصص: 38] أي لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلا أنا، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب، ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب وعلى هذا التقدير: فلا امتناع في حمل قوله تعالى: { وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ } على ظاهره، فهذا ما عندي في هذا الباب، والله أعلم.

السابقالتالي
2