الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ }

اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه تعالى قادراً عالماً، وذلك لأن هذه الكواكب نظراً إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص، وموضع معين، وسير معين، تدل على أن صانعها قادر ونظراً إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا، وسبباً لانتفاعهم بها، تدل على أن صانعها عالم، ونظير هذه الآية في سورة الصفاتإِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوٰكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَـٰنٍ مَّارِدٍ } [الصافات: 7] وههنا مسائل. المسألة الأولى: { ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا } السماء القربى، وذلك لأنها أقرب السموات إلى الناس ومعناها السماء الدنيا من الناس، والمصابيح السرج سميت بها الكواكب، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فقيل: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بمصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة، أما قوله تعالى: { وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ } فاعلم أن الرجوم جمع رجم، وهو مصدر سمي به ما يرجم به، وذكروا في معرض هذه الآية وجهين: الوجه الأول أن الشياطين إذا أرادوا استراق السمع رجموا بها، فإن قيل: جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها واستمرارها وجعلها رجوماً للشياطين ورميهم بها يقتضي زوالها والجمع بينهما متناقض، قلنا: ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن ينفصل من الكواكب شعل ترمى الشياطين بها، وتلك الشعل هي الشهب، وما ذاك إلا قبس يؤخذ من نار والنار باقية الوجه الثاني: في تفسير كون الكواكب رجوماً للشياطين أنا جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من المنجمين. المسألة الثانية: اعلم أن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا، وذلك لأن السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سموات أخرى فوقها، فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها، فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح. واعلم أن أصحاب الهيئة اتفقوا على أن هذه الثوابت مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرات السيارات، واحتجوا عليه بأن بعض هذه الثوابت في الفلك الثامن، فيجب أن تكون كلها هناك، وإنما قلنا: إن بعضها في الفلك الثامن، وذلك لأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة، وإنما قلنا: إن هذه الثوابت لما كانت في الفلك الثامن وجب أن تكون كلها هناك، لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة، فلا بد وأن تكون مركوزة في كرة واحدة. واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف، فإنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هناك، لأنه لا يبعد وجود كرة تحت القمر، وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت، وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارن القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية،إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون هذه المصابيح مركوزة في السماء الدنيا، فثبت أن مذهب الفلاسفة في هذا الباب ضعيف.

السابقالتالي
2 3 4