الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: لا شبهة في أن قوله: { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء، ولا شك في أن قوله: { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام، وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمداً أن يقتدي فيه بهم، فمن الناس من قال: المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات، وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم، وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلاً على أن شرع من قبلنا يلزمنا، وقال آخرون: إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله:وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 88] ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله: { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَـٰفِرِينَ }. ثم قال في هذه الآية: { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } أي اقتد بهم في نفي الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب. وقال آخرون: اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل. قال القاضي: يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه: أحدها: أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأموراً بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة. وثانيها: أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل. وإذا ثبت هذا فنقول: دليل ثبات شرعهم كان مخصوصاً بتلك الأوقات لا في غير تلك الأوقات. فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم وجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط، وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات؟ وثالثها: أن كونه عليه الصلاة والسلام متبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقل من منصبهم وذلك باطل بالإجماع، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم. والجواب عن الأول: أن قوله: { فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } يتناول الكل. فأما ما ذكرتم من كون بعض الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم. فنقول: ذلك العام يجب تخصيصه في هذه الصورة فيبقى فيما عداها حجة. وعن الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام لو كان مأموراً بأن يستدل بالدليل الذي استدل به الأنبياء المتقدمون لم يكن ذلك متابعة، لأن المسلمين لما استدلوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال: إنهم متبعون لليهود والنصارى في هذا الباب، وذلك لأن المستدل بالدليل يكون أصيلاً في ذلك الحكم، ولا تعلق له بمن قبله البتة، والاقتداء والاتباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأول سبباً لوجوب الفعل على الثاني، وبهذا التقرير يسقط السؤال.

السابقالتالي
2 3