الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه كثيراً يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم عليه السلام وذلك لأنه يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركون كانوا معترفين بفضله مقرين بأنهم من أولاده واليهود والنصارى والمسلمون كلهم معظمون له معترفون بجلالة قدره. فلا جرم ذكر الله حكاية حاله في معرض الاحتجاج على المشركين. واعلم أن هذا المنصب العظيم وهو اعتراف أكثر أهل العلم بفضله وعلو مرتبته لم يتفق لأحد كما اتفق للخليل عليه السلام، والسبب فيه أنه حصل بين الرب وبين العبد معاهدة. كما قال:أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة: 40] فإبراهيم وفى بعهد العبودية، والله تعالى شهد بذلك على سبيل الإجمال تارة وعلى سبيل التفصيل أخرى. أما الإجمال ففي آيتين إحداهما قوله:وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124] وهذا شهادة من الله تعالى بأنه تمم عهد العبودية. والثانية قوله تعالى:إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [البقرة: 131] وأما التفصيل: فهو أنه عليه السلام ناظر في إثبات التوحيد وإبطال القول بالشركاء والأنداد في مقامات كثيرة. فالمقام الأول: في هذا الباب مناظراته مع أبيه حيث قال له:يَـٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً } [مريم: 42]. والمقام الثاني: مناظرته مع قومه وهو قوله:فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ } [الأنعام: 76]. والمقام الثالث: مناظرته مع ملك زمانه، فقال:رَبّىَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } [البقرة: 258]. والمقام الرابع: مناظرته مع الكفارة بالفعل، وهو قوله تعالى:فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } [الأنبياء: 58] ثم إن القوم قالوا:حَرّقُوهُ وَٱنصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ } [الأنبياء: 68] ثم إنه عليه السلام بعد هذه الواقعة بذل ولده فقال:إِنّى أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ } [الصافات: 102] فعند هذا ثبت أن إبراهيم عليه السلام كان من الفتيان، لأنه سلم قلبه للعرفان ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ثم إنه عليه السلام سأل ربه فقال:وَٱجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى ٱلأَخِرِينَ } [الشعراء: 84] فوجب في كرم الله تعالى أنه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه في هذا السؤال، فلا جرم أجاب دعاءه، وقبل نداءه وجعله مقبولاً لجميع الفرق والطوائف إلى قيام القيامة، ولما كان العرب معترفين بفضله لا جرم جعل الله تعالى مناظرته مع قومه حجة على مشركي العرب. المسألة الثانية: اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكاً يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة، لكن الثنوية يثبتون إلهين، أحدهما حكيم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما الاشتغال بعبادة غير الله. ففي الذاهبين إليه كثرة. فمنهم عبدة الكواكب، وهم فريقان منهم من يقول إنه سبحانه خلق هذه الكواكب، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها، فهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم، قالوا: فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب، ثم إن هذه الأفلاك والكواكب تعبد الله وتطبعه، ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع، ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم والفناء، وهي المدبرة لأحوال هذا العالم الأسفل، وهؤلاء هم الدهرية الخالصة، وممن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضاً عبدة الأصنام.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7