الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

اعلم أنه تعالى لما بين كمال علمه بالآية الأولى بين كمال قدرته بهذه الآية وهو كونه قادراً على نقل الذوات من الموت إلى الحياة ومن النوم إلى اليقظة واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال وتدبيرها على أحسن الوجوه حالة النوم واليقظة. فأما قوله: { ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بالليل } فالمعنى أنه تعالى ينيمكم فيتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز كما قال جل جلالهٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مسمى } [الزمر: 42]، فالله جل جلاله يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت، وههنا بحث: وهو أن النائم لا شك أنه حي ومتى كان حياً لم تكن روحه مقبوضة البتة، وإذا كان كذلك لم يصح أن يقال إن الله توفاه فلا بد ههنا من تأويل وهو أن حال النوم تغور الأرواح الحساسة من الظاهر في الباطن فصارت الحواس الظاهرة معطلة عن أعمالها، فعند النوم صار ظاهر الجسد معطلاً عن بعض الأعمال، وعند الموت صارت جملة البدن معطلة عن كل الأعمال، فحصل بين النوم وبين الموت مشابهة من هذا الاعتبار، فصح إطلاق لفظ الوفاة والموت على النوم من هذا الوجه. ثم قال: { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } يريد ما كسبتم من العمل بالنهار قال تعالى: { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ ٱلْجَوَارِحِ } والمراد منها الكواسب من الطير والسباع واحدتها جارحة. قال تعالى: { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ السيآت } أي اكتسبوا. وبالجملة فالمراد منه أعمال الجوارح. ثم قال تعالى: { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي يرد إليكم أرواحكم في النهار، والبعث ههنا اليقظة. ثم قال: { لّيُقْضي أَجَلٌ مُّسَمًّى } أي أعماركم المكتوبة، وهي قوله: { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } والمعنى يبعثكم من نومكم إلى أن تبلغوا آجالكم، ومعنى القضاء فصل الأمر على سبيل التمام، ومعنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت. واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه ينيمهم أولاً ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جارياً مجرى الإحياء بعد الإماتة، لا جرم استدل بذلك على صحة البعث والقيامة. فقال: { ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في ليلكم ونهاركم وفي جميع أحوالكم وأعمالكم.