الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي ٱلظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

فيه مسائل: المسألة الأولى: في وجه النظم قولان: الأول: أنه تعالى بين من حال الكفار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كأن قلوبهم قد صارت ميتة عن قبول الإيمان بقولهإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } [الأنعام: 36] فذكر هذه الآية تقريراً لذلك المعنى الثاني أنه تعالى لما ذكر في قولهوَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ } [الأنعام: 38] في كونها دالة على كونها تحت تدبير مدبر قديم وتحت تقدير مقدر حكيم، وفي أن عناية الله محيطة بهم، ورحمته واصلة إليهم، قال بعده والمكذبون لهذه الدلائل والمنكرون لهذه العجائب صم لا يسمعون كلاماً ألبتة، بكم لا ينطقون بالحق، خائضون في ظلمات الكفر، غافلون عن تأمل هذه الدلائل. المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال ليس إلا من الله تعالى. وتقريره أنه تعالى وصفهم بكونهم صماً وبكماً وبكونهم في الظلمات وهو إشارة إلى كونهم عمياً فهو بعينه نظير قوله في سورة البقرةصُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } [البقرة: 18]. ثم قال تعالى: { مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى. قالت المعتزلة: الجواب عن هذا من وجوه: الوجه الأول: قال الجبائي معناه أنه تعالى يجعلهم صماً وبكماً يوم القيامة عند الحشر. ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صماً وبكماً في الظلمات، ويضلهم بذلك عن الجنة وعن طريقها ويصيرهم إلى النار، وأكد القاضي هذا القول بأنه تعالى بين في سائر الآيات أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم. والوجه الثاني: قال الجبائي أيضاً ويحتمل أنهم كذلك في الدنيا، فيكون توسعاً من حيث جعلوا بتكذيبهم بآيات الله تعالى في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدين، كالصم والبكم الذين لا يهتدون إلى منافع الدنيا. فشبههم من هذا الوجه بهم، وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التشبيه. والوجه الثالث: قال الكعبي قوله { صُمٌّ وَبُكْمٌ } محمول على الشتم والإهانة، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة. وأما قوله تعالى: { مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ } فقال الكعبي: ليس هذا على سبيل المجاز لأنه تعالى وإن أجمل القول فيه هٰهنا، فقد فصله في سائر الآيات وهو قولهوَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ } [إبراهيم: 27] وقولهوَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } [البقرة: 26] وقولهوَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد: 17] وقولهيَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } [المائدة: 16] وقولهيُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ } [إبراهيم: 27] وقولهوَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبلنا } [العنكبوت: 69] فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال وإن كانت مجملة في هذه الآية، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات، ثم إن المعتزلة ذكروا تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل من وجوه: الأول: أن المراد من قوله { ٱلظُّلُمَـٰتِ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ } محمول على منع الألطاف فصاروا عندها كالصم والبكم.

السابقالتالي
2