الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }

واعلم أنا إن قلنا: إن المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدليل على وجود الصانع القادر المختار. قلنا: المقصود من هذه الآية بيان كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، فإن الآيتين المتقدمتين يدلان على كمال القدرة، وهذه الآية تدل على كمال العلم وحينئذٍ يكمل العلم بالصفات المعتبرة في حصول الإلهية، وإن قلنا: المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدلالة على صحة المعاد، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان، وذلك لأن منكري المعاد إنما أنكروه لأمرين أحدهما: أنهم يعتقدون أن المؤثر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطبائع وينكرون أن يكون المؤثر فيه قادراً مختاراً. والثاني: أنهم يسلمون ذلك إلا أنهم يقولون إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي، ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ثم إنه تعالى أثبت بالآيتين المتقدمتين كونه تعالى قادراً ومختاراً لا علة موجبة، وأثبت بهذه الآية كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، وحينئذٍ تبطل جميع الشبهات التي عليها مدار القول بإنكار المعاد، وصحة الحشر والنشر فهذا هو الكلام في نظم الآية وههنا مسائل:المسألة الأولى: القائلون بأن الله تعالى مختص بالمكان تمسكوا بهذه الآية وهو قوله { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } وذلك يدل على أن الإله مستقر في السماء قالوا: ويتأكد هذا أيضاً بقوله تعالى:ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ } [الملك: 16] قالوا: ولا يلزمنا أن يقال فيلزم أن يكون في الأرض لقوله تعالى في هذه الآية { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَفِى ٱلاْرْضِ } وذلك يقتضي حصوله تعالى في المكانين معاً وهو محال لأنا نقول أجمعنا على أنه ليس بموجود في الأرض، ولا يلزم من ترك العمل بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل، فوجب أن يبقى ظاهر قوله { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } على ذلك الظاهر، ولأن من القراء من وقف عند قوله { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } ثم يبتدىء فيقول { وَفِى ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ } والمعنى أنه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله { فِى ٱلأَرْضِ } صلة لقوله { سِرَّكُمْ } هذا تمام كلامهم. وأعلم أنا نقيم الدلالة أولاً على أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره، وذلك من وجوه: الأول: أنه تعالى قال في هذه السورةقُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضِ قُل لِلَّهِ } [الأنعام: 12] فبيّـن بهذه الآية أن كل ما في السموات والأرض فهو ملك لله تعالى ومملوك له، فلو كان الله أحد الأشياء الموجودة في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه، وذلك محال، ونظير هذه الآية قوله في سورة طهلَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [طه: 6] فإن قالوا قوله { قُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَٰوات وٱلأَرْضِ } هذا يقتضي أن كل ما في السموات فهو لله إلا أن كلمة ما مختصة بمن لا يعقل فلا يدخل فيها ذات الله تعالى.

السابقالتالي
2 3