الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: { وَكَذٰلِكَ } منسوق على شيء وفي تعيين ذلك الشيء قولان: الأول: أنه منسوق على قوله:كَذٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [الأنعام:108] أي كما فعلنا ذلك { كَذٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً } الثاني: معناه: جعلنا لك عدواً كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء فيكون قوله: { كَذٰلِكَ } عطفاً على معنى ما تقدم من الكلام، لأن ما تقدم يدل على أنه تعالى جعل له أعداء. المسألة الثانية: ظاهر قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً } أنه تعالى هو الذي جعل أولئك الأعداء أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن تلك العداوة معصية وكفر فهذا يقتضي أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله تعالى، أجاب الجبائي عنه: بأن المراد بهذا الجعل الحكم والبيان، فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل: إنه كفره، وإذا أخبر عن عدالته قيل: إنه عدله، فكذا ههنا أنه تعالى لما بين للرسول عليه الصلاة والسلام كونهم أعداء له لا جرم قال إنه جعلهم أعداء له، وأجاب أبو بكر الأصم عنه: بأنه تعالى لما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العالمين وخصه بتلك المعجزة حسدوه، وصار ذلك الحسد سبباً للعداوة القوية، فلهذا التأويل قال إنه تعالى جعلهم أعداء له ونظيره قول المتنبي:
فأنت الذي صيرتهم لي حسداً    
وأجاب الكعبي عنه: بأنه تعالى أمر الأنبياء بعدواتهم وأعلمهم كونهم أعداء لهم، وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء. لأن العداوة لا تحصل إلا من الجانبين، فلهذا الوجه جاز أن يقال إنه تعالى جعلهم أعداء للأنبياء عليهم السلام. واعلم أن هذه الأجوبة ضعيفة جداً لما بينا أن الأفعال مستندة إلى الدواعي، وهي حادثة من قبل الله تعالى، ومتى كان الأمر كذلك. فقد صح مذهبنا. ثم ههنا بحث آخر: وهو أن العداوة والصداقة يمتنع أن تحصل باختيار الإنسان، فإن الرجل قد يبلغ في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر البتة على إزالة تلك الحالة عن قلبه، بل قد لا يقدر على إخفاء آثار تلك العداوة، ولو أتى بكل تكلف وحيلة لعجز عنه، ولو كان حصول العداوة والصداقة في القلب باختيار الإنسان لوجب أن يكون الإنسان متمكناً من قلب العداوة بالصداقة وبالضد وكيف لا نقول ذلك والشعراء عرفوا أن ذلك خارج عن الوسع؟ قال المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم   وتأبى الطباع على الناقل
والعاشق الذي يشتد عشقه قد يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ولا يقدر عليه، ولو كان حصول ذلك الحب والبغض باختياره لما عجز عن إزالته. المسألة الثالثة: النصب في قوله: { شَيَـٰطِينَ } فيه وجهان: الأول: أنه منصوب على البدل من قوله: { عَدُوّا } والثاني: أن يكون قوله { عَدُوّا } منصوباً على أنه مفعول ثان، والتقدير: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء الأنبياء.

السابقالتالي
2 3 4