الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

هذا أيضاً من الآيات الدالة على قولنا: إن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره، والتقلب والقلب واحد، وهو تحويل الشيء عن وجهه، ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار: هو أنه إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها وعرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول، إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات، والمقصود من هذه الآية تقرير ما ذكرناه في الآية الأولى من أن تلك الآيات القاهرة لو جاءتهم لما آمنوا بها ولما انتفعوا بظهورها ألبتة. أجاب الجبائي عنه بأن قال: المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يأمنوا به أول مرة في دار الدنيا. وأجاب الكعبي عنه: بأن المراد من قوله: { وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ } بأنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. وأجاب القاضي: بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي قد ظهرت، فلا تجدهم يؤمنون بها آخراً كما لم يؤمنوا بها أولاً. واعلم أن كل هذه الوجوه في غاية الضعف، وليس لأحد أن يعيبنا، فيقول: إنكم تكررون هذه الوجوه في كل موضع، فإنا نقول: إن هؤلاء المعتزلة لهم وجوه معدودة في تأويلات آيات الجزاء، فهم يكررونها في كل آية، فنحن أيضاً نكرر الجواب عنها في كل آية، فنقول: قد بينا أن القدرة الأصلية صالحة للضدين وللطرفين على السوية. فإذا لم ينضم على تلك القدرة داعية مرجحة امتنع حصول الرجحان، فإذا انضمت الداعية المرجحة إما إلى جانب الفعل أو إلى جانب الترك ظهر الرجحان، وتلك الداعية ليست إلا من الله تعالى قطعاً للتسلسل. وقد ظهر صحة هذه المقدمات بالدلائل القاطعة اليقينية التي لا يشك فيها العاقل. وهذا هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء " فالقلب كالموقوف بين داعية الفعل وبين داعية الترك، فإن حصل في القلب داعي الفعل ترجح جانب الفعل، وإن حصل فيه داعي الترك ترجح جانب الترك، وهاتان الداعيتان لما كانتا لا تحصلان إلا بإيجاد الله وتخليقه وتكوينه، عبر عنهما بأصبعي الرحمن، والسبب في حسن هذه الاستعارة أن الشيء الذي يحصل بين أصبعي الإنسان يكون كامل القدرة عليه. فإن شاء أمسكه وإن شاء أسقطه، فههنا أيضاً كذلك القلب واقف بين هاتين الداعيتين، وهاتان الداعيتان حاصلتان بخلق الله تعالى، والقلب مسخر لهاتين الداعيتين، فلهذا السبب حسنت هذه الاستعارة، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: " يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك "

السابقالتالي
2 3