الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ }

في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر هذه البراهين الخمسة من دلائل العالم الأسفل والعالم الأعلى على ثبوت الإلهية، وكمال القدرة والرحمة. ذكر بعد ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء، واعلم أن هذه المسألة قد تقدم ذكرها إلا أن المذكور ههنا غير ما تقدم ذكره وذلك لأن الذين أثبتوا الشريك لله فرق وطوائف. فالطائفة الأولى: عبدة الأصنام فهم يقولون الأصنام شركاء لله في العبودية، ولكنهم معترفون بأن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين. والطائفة الثانية: من المشركين الذين يقولون، مدبر هذا العالم هو الكواكب، وهؤلاء فريقان منهم من يقول: إنها واجبة الوجود لذاتها، ومنهم من يقول: إنها ممكنة الوجود لذواتها محدثة، وخالقها هو الله تعالى، إلا أنه سبحانه فوض تدبير هذا العالم الأسفل إليها وهؤلاء هم الذين حكى الله عنهم أن الخليل صلى الله عليه وسلم ناظرهم بقوله: { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } وشرح هذا الدليل قد مضى. والطائفة الثالثة: من المشركين الذين قالوا لجملة هذا العالم بما فيه من السموات والأرضين إلهان: أحدهما فاعل الخير. والثاني فاعل الشر، والمقصود من هذه الآية حكاية مذهب هؤلاء فهذا تقرير نظم الآية والتنبيه على ما فيها من الفوائد. فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قوله تعالى: { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء ٱلْجِنَّ } نزلت في الزنادقة الذين قالوا إن الله وإبليس أخوان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور. واعلم أن هذا القول الذي ذكره ابن عباس أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية وذلك لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة، قال ابن عباس: والذي يقوي هذا الوجه قوله تعالى:وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [الصافات: 158] وإنما وصف بكونه من الجن لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار، والملائكة والروحانيون لا يرون بالعيون فصارت كأنها مستترة من العيون، فبهذا التأويل أطلق لفظ الجن عليها، وأقول: هذا مذهب المجوس، وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة، لأن المجوس يلقبون بالزنادقة، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بالزند والمنسوب إليه يسمى زندي. ثم عرب فقيل زنديق. ثم جمع فقيل زنادقة. واعلم أن المجوس قالوا: كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن، وهو المسمى بإبليس في شرعنا، ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة، والأقلون منهم قالوا: إنه قديم أزلي، وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم فخيرات هذا العالم من الله تعالى وشروره من إبليس فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

السابقالتالي
2 3 4 5