وفيه مسائل: المسألة الأولى: هذا إشارة إلى ماذا؟ فنقول: المشهور أنه إشارة إلى القرآن وإطلاق الحديث في القرآن على الكلام القديم كثير بمعنى كونه اسماً لا وصفاً فإن الحديث اسم لما يتحدث به، ووصف يوصف به ما يتجدد، فيقال: أمر حادث ورسم حديث أي جديد، ويقال: أعجبني حديث فلان وكلامه وقد بينا أن القرآن قديم له لذة الكلام الجديد، والحديث الذي لم يسمع الوجه الثاني: أنه إشارة إلى ما تحدثوا به من قبل في قوله تعالى:{ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـٰماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ ءَابَاؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } [الواقعة: 47، 48] وذلك لأن الكلام مستقل منتظم فإنه تعالى رد عليهم ذلك بقوله تعالى:{ قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ } [الواقعة: 49] وذكر الدليل عليهم بقوله:{ نَحْنُ خَلَقْنَـٰكُمْ } [الواقعة: 57] وبقوله:{ أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } [الواقعة: 58]{ أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } [الواقعة: 63] وأقسم بعد إقامة الدلائل بقوله:{ فَلاَ أُقْسِمُ } [الواقعة: 75] وبين أن ذلك كله إخبار من الله بقوله:{ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ } [الواقعة: 77] ثم عاد إلى كلامهم، وقال: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } الذي تتحدثون به { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } لأصحابكم تعلمون خلافه وتقولونه، أم أنتم به جازمون، وعلى الإصرار عازمون، وسنبين وجهه بتفسير المدهن، وفيه وجهان أحدهما: أن المدهن المراد به المكذب قال الزجاج: معناه أفبالقرآن أنتم تكذبون، والتحقيق فيه أن الإدهان تليين الكلام لاستمالة السامع من غير اعتقاد صحة الكلام من المتكلم كما أن العدو إذا عجز عن عدوه يقول له أنا داع لك ومثن عليك مداهنة وهو كاذب، فصار استعمال المدهن في المكذب استعمالاً ثانياً وهذا إذا قلنا: إن الحديث هو القرآن والوجه الثاني: المدهن هو الذي يلين في الكلام ويوافق باللسان وهو مصر على الخلاف فقال: { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } فمنهم من يقول: إن النبي كاذب، وإن الحشر محال وذلك لما هم عليه من حب الرياسة، وتخافون أنكم إن صدقتم ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسل، والأول عليه أكثر المفسرين، لكن الثاني مطابق لصريح اللفظ فإن الحديث بكلامهم أولى وهو عبارة عن قولهم:{ أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [الواقعة: 47] والمدهن يبقى على حقيقته فإنهم ما كانوا مدهنين بالقرآن، وقول الزجاج: مكذبون جاء بعده صريحاً. وأما قوله: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } ففيه وجوه الأول: تجعلون شكر النعم أنكم تقولون مطرنا بنوء كذا، وهذا عليه أكثر المفسرين، الثاني: تجعلون معاشكم وكسبكم تكذيب محمد، يقال: فلان قطع الطريق معاشه، والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق، يقال للمأكول رزق، كما يقال للمقدور قدرة، والمخلوق خلق، وعلى هذا فالتكذيب مصدر قصد به ما كانوا يحصلون به مقاصدهم، وأما قوله: { تُكَذّبُونَ } فعلى الأول المراد تكذيبهم بما قال الله تعالى:{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] وغير ذلك، وعلى الثاني المراد جميع ما صدر منهم من التكذيب، وهو أقرب إلى اللفظ.