الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

وفيه وجوه كثيرة حتى قيل: إن في القرآن ثلاث آيات في كل آية منها مائة قول الأولى: قوله تعالى:فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152]، الثانية: قوله تعالى:إن عُدتُّمْ عُدْنَا } [الإسراء: 8]، الثالثة: قوله تعالى: { هَلْ جَزَاء ٱلإحْسَـٰنِ إِلاَّ ٱلإحْسَـٰنُ } ولنذكر الأشهر منها والأقرب. أما الأشهر فوجوه أحدها: هل جزاء التوحيد غير الجنة، أي جزاء من قال: لا إله إلا الله إدخال الجنة ثانيها: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة ثالثها: هل جزاء من أحسن إليكم في الدنيا بالنعم وفي العقبى بالنعيم إلا أن تحسنوا إليه بالعبادة والتقوى، وأما الأقرب فإنه عام فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضاً، ولنذكر تحقيق القول فيه وترجع الوجوه كلها إلى ذلك، فنقول: الإحسان يستعمل في ثلاث معان أحدها: إثبات الحسن وإيجاده قال تعالى:فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [غافر: 64] وقال تعالى:ٱلَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ } [السجدة: 7] ثانيها: الإتيان بالحسن كالإظراف والإغراب للإتيان بالظريف والغريب قال تعالى:مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160] ثالثها: يقال: فلان لا يحسن الكتابة ولا يحسن الفاتحة أي لا يعلمهما، والظاهر أن الأصل في الإحسان الوجهان الأولان والثالث مأخوذ منهما، وهذا لا يفهم إلا بقرينة الاستعمال مما يغلب على الظن إرادة العلم، إذا علمت هذا فنقول: يمكن حمل الإحسان في الموضعين على معنى متحد من المعنيين ويمكن حمله فيهما على معنيين مختلفين أما الأول: فنقول: { هَلْ جَزَاء ٱلإحْسَـٰنِ } أي هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن، لكن الفعل الحسن من العبد ليس كل ما يستحسنه هو، بل الحسن هو ما استحسنه الله منه، فإن الفاسق ربما يكون الفسق في نظره حسناً وليس بحسن بل الحسن ما طلبه الله منه، كذلك الحسن من الله هو كل ما يأتي به مما يطلبه العبد كما أتى العبد بما يطلبه الله تعالى منه، وإليه الإشارة بقوله تعالى:وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [الزخرف: 71] وقوله تعالى:وَهُمْ فِيمَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـٰلِدُونَ } [الأنبياء: 102] وقال تعالى:لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ } [يونس: 26] أي ما هو حسن عندهم وأما الثاني فنقول: هل جزاء من أثبت الحسن في عمله في الدنيا إلا أن يثبت الله الحسن فيه وفي أحواله في الدارين وبالعكس هل جزاء من أثبت الحسن فينا وفي صورنا وأحوالنا إلا أن نثبت الحسن فيه أيضاً، لكن إثبات الحسن في الله تعالى محال، فإثبات الحسن أيضاً في أنفسنا وأفعالنا فنحسن أنفسنا بعبادة حضرة الله تعالى، وأفعالنا بالتوجه إليه وأحوال باطننا بمعرفته تعالى، وإلى هذا رجعت الإشارة، وورد في الأخبار من حسن وجوه المؤمنين وقبح وجوه الكافرين وأما الوجه الثالث: وهو الحمل على المعنيين فهو أن تقول: على جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يثبت الله فيه الحسن، وفي جميع أحواله فيجعل وجهه حسناً وحاله حسناً، ثم فيه لطائف: اللطيفة الأولى: هذه إشارة إلى رفع التكليف عن العوام في الآخرة، وتوجيه التكليف على الخواص فيها أما الأول: فلأنه تعالى لما قال: { هَلْ جَزَاء ٱلإحْسَـٰنِ إِلاَّ ٱلإحْسَـٰنُ } والمؤمن لا شك في أنه يثاب بالجنة فيكون له من الله الإحسان جزاء له ومن جازى عبداً على عمله لا يأمره بشكره، ولأن التكليف لو بقي في الآخرة فلو ترك العبد القيام بالتكليف لاستحق العقاب، والعقاب ترك الإحسان لأن العبد لما عبد الله في الدنيا ما دام وبقي يليق بكرمه تعالى أن يحسن إليه في الآخرة ما دام وبقي، فلا عقاب على تركه بلا تكليف وأما الثاني فنقول: خاصة الله تعالى عبدنا الله تعالى في الدنيا لنعم قد سبقت له علينا، فهذا الذي أعطانا الله تعالى ابتداء نعمة وإحسان جديد فله علينا شكره، فيقولون الحمد لله، ويذكرون الله ويثنون عليه فيكون نفس الإحسان من الله تعالى في حقهم سبباً لقيامهم بشكره، فيعرضون هم على أنفسهم عبادته تعالى فيكون لهم بأدنى عبادة شغل شاغل عن الحور والقصور والأكل والشرب فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتنابذون ولا يلعبون فيكون حالهم كحال الملائكة في يومنا هذا لا يتناكحون ولا يلعبون، فلا يكون ذلك تكليفاً مثل هذه التكاليف الشاقة، وإنما يكون ذلك لذة زائدة على كل لذة في غيرها.

السابقالتالي
2