الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ }

فيه جواب سؤال وهو أن الخلق للغرض ينبىء عن الحاجة، فقال ما خلقتهم ليطعمون والنفع فيه لهم لا لي، وذلك لأن منفعة العبد في حق السيد أن يكتسب له، إما بتحصيل المال له أو بحفظ المال عليه، وذلك لأن العبد إن كان للكسب فغرض التحصيل فيه ظاهر، وإن كان للشغل فلولا العبد لاحتاج السيد إلى استئجار من يفعل الشغل له فيحتاج إلى إخراج مال، والعبد يحفظ ماله عليه ويغنيه عن الإخراج فهو نوع كسب فقال تعالى: { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } أي لست كالسادة في طلب العبادة بل هم الرابحون في عبادتهم، وفيه وجه آخر وهو أن يقال هذا تقرير لكونهم مخلوقين للعبادة، وذلك لأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة، لكن العبيد على قسمين قسم منهم يكون للعظمة والجمال كمماليك الملوك يطعمهم الملك ويسقيهم ويعطيهم الأطراف من البلاد ويؤتيهم الطراف بعد التلاد، والمراد منهم التعظيم والمثول بين يديه، ووضع اليمين على الشمال لديه، وقسم منهم للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها فقال تعالى إني خلقتهم فلا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك، فما أُريد منهم من رزق، أو هل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ والخواني الذي يقرب الطعام وليسوا كذلك فما أُريد أن يطعمون، فإذن هم عبيد من القسم الأول فينبغي أن لا يتركوا التعظيم، وفيه لطائف نذكرها في مسائل: المسألة الأولى: ما الفائدة في تكرار الإرادتين، ومن لا يريد من أحد رزقاً لا يريد أن يطعمه؟ نقول هو لما ذكرناه من قبل، وهو أن السيد قد يطلب من العبد الكسب له، وهو طلب الرزق منه، وقد يكون للسيد مال وافر يستغني عن الكسب لكنه يطلب منه قضاء حوائجه بماله من المال وإحضار الطعام بين يديه من ماله، فالسيد قال لا أُريد ذلك ولا هذا. المسألة الثانية: لم قدم طلب الرزق على طلب الإطعام؟ نقول ذلك من باب الارتقاء كقول القائل لا أطلب منك الإعانة ولا ممن هو أقوى ولا يعكس، ويقل فلان يكرمه الأمراء بل السلاطين ولا يعكس، فقال ههنا لا أطلب منكم رزقاً ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم طعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثير الطلب من العباد وإن كان الكسب لا يطلب منهم. المسألة الثالثة: لو قال ما أريد منهم أن يرزقون وما أريد منهم من الطعام هل تحصل هذه الفائدة؟ نقول على ما فصل لا وذلك لأن بالتكسب يطلب الغنى لا الفعل فإن اشتغل بشغل ولم يحصل له غنى لا يكون كمن حصل له غنى، وإن لم يشتغل، كالعبد المتكسب إذا ترك الشغل لحاجته ووجد مطلباً يرضى منه السيد إذا كان شغله التكسب، وأما من يراد منه الفعل لذات الفعل، كالجائع إذا بعث عبده لإحضار الطعام فاشتغل بأخذ المال من مطلب فربما لا يرضى به السيد فالمقصود من الرزق الغنى، فلم يقل بلفظ الفعل والمقصود من الإطعام الفعل نفسه فذكر بلفظ الفعل، ولم يقل وما أريد منهم من طعام هذا مع ما في اللفظين من الفصاحة والجزالة للتنويع.

السابقالتالي
2