الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }

قوله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء }. اعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى لليهود المنكرين لوجوب الرجم، وترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم والأنبياء المبعوثين إليهم، وفيه مسائل: المسألة الأولى: العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فوجب حصول الفرق بين الهدى والنور، فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والتكاليف، والنور بيان للتوحيد والنبوة والمعاد. قال الزجاج { فِيهَا هُدًى } أي بيان الحكم الذي جاؤا يستفتون فيه النبي صلى الله عليه وسلم { وَنُورٌ } بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق. المسألة الثانية: احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخاً بهذه الآية وتقريره أنه تعالى قال: إن في التوراة هدىً ونوراً. والمراد كونه هدىً ونوراً في أصول الشرع وفروعه، ولو كان منسوخاً غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيه هدىٌ ونور، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط، لأنه ذكر الهدى والنور، ولو كان المراد منهما معاً هو ما يتعلق بأصول الدين لزم التكرار، وأيضاً أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم، فلا بدّ وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة في الآية، لأنا وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا، لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلاً فيها. المسالة الثالثة: قوله { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } يريد النبيّين الذين كانوا بعد موسى، وذلك أن الله تعالى بعث في بني إسرائيل ألوفاً من الأنبياء ليس معهم كتاب، إنما بعثهم بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها. فإن قيل: كل نبي لا بدّ وأن يكون مسلماً، فما الفائدة في قوله { ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ }. قلنا فيه وجوه: الأول: المراد بقوله { أسلموا } أي انقادوا لحكم التوراة، فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة، والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام. الثاني: قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له، كقوله تعالى:إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120] وقولهأَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ } [النساء: 45] وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلاً لأكثر الأنبياء.

السابقالتالي
2 3 4