الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }

قوله تعالى: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } وفيه سؤال: وهو أن اليهود لا يقولون ذلك البتة، فكيف نقل هذا القول عنهم؟ وأما النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق عيسى لا في حق أنفسهم، فكيف يجوز هذا النقل عنهم؟ أجاب المفسرون عنه من وجوه: الأول: أن هذا من باب حذف المضاف، والتقدير نحن أبناء رسل الله، فأضيف إلى الله ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل الله، ونظيره قولهإِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [الفتح: 10] والثاني: أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب فقد يطلق أيضاً على من يتخذ ابناً، واتخاذه ابناً بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة، فالقوم لما ادعوا أن عناية الله بهم أشد وأكمل من عنايته بكل ما سواهم، لا جرم عبر الله تعالى عن دعواهم كمال عناية الله بهم بأنهم ادعوا أنهم أبناء الله. الثالث: أن اليهود لما زعموا أن عزيراً ابن الله، والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله، ثم زعموا أن عزيراً والمسيح كانا منهم، صار ذلك كأنهم قالوا نحن أبناء الله، ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا إنساناً آخر فقد يقولون: نحن ملوك الدنيا، ونحن سلاطين العالم، وغرضهم منه كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك والسلطان فكذا هٰهنا، والرابع: قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه، فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة، وأما النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم: اذهب إلى أبي وأبيكم وجملة الكلام أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. ثم انه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال: { قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم } وفيه سؤال، وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم، فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه، والاشكال عليه أن يقال: إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة، فإن كان موضع الإلزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله لأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله، ثم أنهم ما خلوا عن محن الدنيا. انظروا إلى وقعة أحد، وإلى قتل الحسن والحسين، وإن كان موضع الإلزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك. ومجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم ليس بكاف في هذا الباب، إذ لو كان كافياً لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافياً، وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعاً.

السابقالتالي
2