الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }

فيه مسائل: المسألة الأولى: معنى الآية ظاهر، وفيه سؤال: وهو أنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } والله لا يغفر الشرك. والجواب عنه من وجوه: الأول: أنه تعالى لما قال لعيسى عليه السلام:أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [المائدة: 116] علم أن قوماً من النصارى حكوا هذا الكلام عنه، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافراً بل يكون مذنباً حيث كذب في هذه الحكاية وغفران الذنب جائز، فلهذا المعنى: طلب المغفرة من الله تعالى، والثاني: أنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزُّهّاد والعُبّاد النار، لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه، فذكر عيسى هذا الكلام ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله، وترك التعرض والاعتراض بالكلية، ولذلك ختم الكلام بقوله { فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } يعني أنت قادر على ما تريد، حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية، وقوله إن الله لا يغفر الشرك فنقول: غفرانه جائز عندنا، وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب، وليس في إسقاطه على الله مضرة، فوجب أن يكون حسناً بل دلّ الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه السلام. الوجه الثالث: في الجواب أن القوم قالوا هذا الكفر فعيسى عليه السلام جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه، فقال: { إن تعذبهم } علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك، وأنت قد حكمت على كل من كفر من عبادك بالعقوبة، وإن تغفر لهم علمت أنهم تابوا عن الكفر، وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة. الوجه الرابع: أنا ذكرنا أن من الناس من قال: إن قول الله تعالى لعيسىأَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [المائدة: 116] إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة، وعلى هذا القول فالجواب سهل لأن قوله { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } يعني إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك، وان أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الايمان، وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضاً ذاك،وعلى هذا التقدير فلا إشكال. المسألة الثانية: احتج بعض الأصحاب بهذه الآية على شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في حق الفساق قالوا: لأن قول عيسى عليه السلام { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } ليس في حق أهل الثواب لأن التعذيب لا يليق بهم، وليس أيضاً في حق الكفار لأن قوله { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } لا يليق بهم فدل على أن ذلك ليس إلا في حق الفساق من أهل الايمان، وإذا ثبت شفاعة الفساق في حق عيسى عليه السلام ثبت في حق محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى لأنه لا قائل بالفصل.

السابقالتالي
2