الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

قوله تعالى: { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها، ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها، بيّـن تعالى أن ذلك باطل فقال: { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ }. المسألة الثانية: أعلم أنه يقال: فعل وعمل وطفق وجعل وأنشأ وأقبل، وبعضها أعم من بعض، وأكثرها عموماً فعل، لأنه واقع على أعمال الجوارح وأعمال القلوب، أما إنه واقع على أعمال الجوارح فظاهر، وأما إنه واقع على أعمال القلوب، فالدليل عليه قوله تعالى: { لَوْ شَآء ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا } إلى قولهكَذَلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [النحل: 35] وأما عمل فإنه أخص من فعل، لأنه لا يقع إلا على أعمال الجوارح، ولا يقع على الهم والعزم والقصد، والدليل عليه قوله عليه السلام: " نية المؤمن خير من عمله " جعل النية خيراً من العمل، فلو كانت النية عملاً، لزم كون النية خيراً من نفسها، وأما جعل فله وجوه: أحدها: الحكم ومنه قولهوَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ عَمَّ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً } [الزخرف: 19] وثانيها: الخلق، ومنه قوله:وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } [الانعام: 1]. وثالثها: بمعنى التصيير ومه قولهإِنَّا جَعَلْنَـٰهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً } [الزخرف: 3]. إذا عرفت هذا فنقول: قوله { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ } أي ما حكم الله بذلك ولا شرع ولا أمر به. المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أشياء: أولها: البحيرة: وهي فعيلة من البحر وهو الشق، يقال: بحر ناقته إذا شق أذنها، وهي بمعنى المفعول، قال أبو عبيدة والزجاج: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً شقوا أذن الناقة وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسيبوها لآلهتهم، ولا يجز لها وبر، ولا يحمل على ظهرها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع عن مرعى، ولا ينتفع بها وإذا لقيها المعيي لم يركبها تحريجاً. وأما السائبة: فهي فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال: ساب الماء وسابت الحية، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت، وهي المسيبة كعيشة راضية بمعنى مرضية، وذكروا فيها وجوهاً: أحدها: ما ذكره أبو عبيدة، وهو أن الرجل كان إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيراً، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها، وثانيها: قال الفراء: إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث، سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف، وثالثها: قال ابن عباس: السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء، فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل، ورابعها: السائبة هو العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.

السابقالتالي
2