الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } * { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }

اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة الآخر فجمع بينهما بياناً لطاعة الله، فإن الله تعالى لو قال: ومن يطع الله، كان لبعض الناس أن يقول: نحن لا نرى الله ولا نسمع كلامه، فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه؟ فقال طاعته في طاعة رسوله وكلامه يسمع من رسوله. ثم قال: { وَمَن يَتَوَلَّ } أي بقلبه، ثم لما بيّن حال المخلفين بعد قولهإِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [الفتح: 10] عاد إلى بيان حالهم وقال: { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الصدق كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض { فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } حتى بايعوا على الموت، وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآيةوَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍ } [الفتح: 17] فجعل طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله الجنة في تلك الآية، وفي هذه الآية بيّن أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان، أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وأما طاعة الرسول فبقوله { إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى: { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة كما قال تعالى:وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } [المجادلة: 22]. ثم قال تعالى: { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } والفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا لأنه علم ما في قلوبهم من الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم؟ نقول قوله { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بقوله { إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } كما يقول القائل فرحت أمس إذ كلمت زيداً فقام إليّ، أو إذ دخلت عليه فأكرمني، فيكون الفرح بعد الإكرام ترتيباً كذلك، ههنا قال تعالى: { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من الصدق إشارة إلى أن الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب، بل عند المبايعة التي كان معها علم الله بصدقهم، والفاء في قوله { فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } للتعقيب الذي ذكرته فإنه تعالى رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم، وفي علم بيان وصف المبايعة بكونها معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم وهذا توفيق لا يتأتى إلا لمن هداه الله تعالى إلى معاني كتابه الكريم وقوله تعالى: { وَأَثَـٰبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } هو فتح خيبر { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } مغانمها وقيل مغانم هجر { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً } كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه { حَكِيماً } حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه أو لأن في ذلك إعزاز قوم وإذلال آخرين، فإنه يذل من يشاء بعزته ويعز من يشاء بحكمته.