الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }

وفيه مسائل: المسألة الأولى: في الباطل وجوه الأول: ما لا يجوز وجوده، وذلك لأنهم اتبعوا إلٰهاً غير الله، وإلٰه غير الله محال الوجود، وهو الباطل وغاية الباطل، لأن الباطل هو المعدوم، يقال بطل كذا، أي عدم، والمعدوم الذي لا يجوز وجوده ولا يمكن أن يوجد، ولا يجوز أن يصير حقاً موجوداً، فهو في غاية البطلان، فعلى هذا فالحق هو الذي لا يمكن عدمه وهو الله تعالى، وذلك لأن الحق هو الموجود، يقال تحقق الأمر، أي وجد وثبت، والموجود الذي لا يجوز عدمه هو في غاية الثبوت الثاني: الباطل الشيطان بدليل قوله تعالى:لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [صۤ: 85] فبيّن أن الشيطان متبوع وأتباعه هم الكفار والفجار، وعلى هذا فالحق هو الله، لأنه تعالى جعل في مقابلة حزب الشيطان حزب الله الثالث: الباطل، هو قول كبرائهم ودين آبائهم، كما قال تعالى عنهم:إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثارهم مهتدون } [الزحرف: 22] ومقتدون فعلى هذا الحق ما قاله النبي عليه السلام عن الله الرابع: الباطل كل ما سوى الله تعالى، لأن الباطل والهالك بمعنى واحد. وكُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88] وعلى هذا فالحق هو الله تعالى أيضاً. المسألة الثانية: لو قال قائل من ربهم لا يلائم إلا وجهاً واحداً من أربعة أوجه، وهو قولنا المراد من الحق هو ما أنزل الله وما قال النبي عليه السلام من الله، فأما على قولنا الحق هو الله فكيف يصح قوله { ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ } نقول على هذا { مِّن رَّبِّهِمُ } لا يكون متعلقاً بالحق، وإنما يكون تعلقه بقوله بقوله تعالى: { ٱتَّبَعُواْ } أي اتبعوا أمر ربهم، أي من فضل الله أو هداية ربهم اتبعوا الحق، وهو الله سبحانه. المسألة الثالثة: إذا كان الباطل هو المعدوم الذي لا يجوز وجوده، فكيف يمكن اتباعه؟ نقول لما كانوا يقولون إنما يفعلون للأصنام وهي آلهة وهي تؤجرهم بذلك كانوا متبعين في زعمهم، ولا متبع هناك. المسألة الرابعة: قال في حق المؤمنين { ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ } وقال في حق الكفار { ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَـٰطِلَ } من آلهتهم أو الشيطان، نقول أما آلهتهم فلأنهم لا كلام لهم ولا عقل، وحيث ينطقهم الله ينكرون فعلهم، كما قال تعالى:وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } [فاطر: 14] وقال تعالى:وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـٰفِرِينَ } [الأحقاف: 6] والله تعالى رضي بفعلهم وثبتهم عليه، ويحتمل أن يقال قوله { مّن رَّبّهِمُ } عائد إلى الأمرين جميعاً، أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل، وهؤلاء الحق، أي من حكم ربهم، ومن عند ربهم. ثم قال تعالى: { كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَـٰلَهُمْ } وفيه أيضاً مسائل: المسألة الأولى: أي مثل ضربه الله تعالى حتى يقول { كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَـٰلَهُمْ }؟ نقول فيه وجهان أحدهما: إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات الأبرار الثاني: كون الكافر متبعاً للباطل، وكون المؤمن متبعاً للحق، ويحتمل وجهين آخرين أحدهما: على قولنا { مّن رَّبّهِمُ } أي من عند ربهم اتبع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق، نقول هذا مثل يضرب عليه جميع الأمثال، فإن الكل من عند الله الإضلال وغيره والاتباع وغيره وثانيهما: هو أن الله تعالى لما بيّن أن الكافر يضل الله عمله والمؤمن يكفر الله سيئاته، وكان بين الكفر والإيمان مباينة ظاهرة فإنهما ضدان، نبه على أن السبب كذا أي ليس الإضلال والتكفير بسبب المضادة والاختلاف بل بسبب اتباع الحق والباطل، وإذا علم السبب فالفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الحق والآخر اتباع الباطل، فإن من يؤمن ظاهراً وقلبه مملوء من الكفر، ومن يؤمن بقلبه وقلبه مملوء من الإيمان اتحد فعلاهما في الظاهر، وهما مختلفان بسبب اتباع الحق واتباع الباطل، لا بدع من ذلك فإن من يؤمن ظاهراً وهو يسر الكفر، ومن يكفر ظاهراً بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان اختلف الفعلان في الظاهر، وإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب أن اتباع الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان وعلم سببه، وهو اتباع الحق والباطل، فكذلك اعلموا أن كل شيء اتبع فيه الحق كان مقبولاً مثاباً عليه، وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردوداً معاقباً عليه فصار هذا عاماً في الأمثال، على أنا نقول قوله { كَذٰلِكَ } لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب بل معناه أنه تعالى لما بيّن حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته وبيّن السبب فيهما، كان ذلك غاية الإيضاح فقال: { كَذٰلِكَ } أي مثل هذا البيان { يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَـٰلَهُمْ } ويبين لهم أحوالهم.

السابقالتالي
2